
اهمية الصيام !!
الشكر لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد (*)
فعن والدي هريرة رضي الله سبحانه وتعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة تضاؤل. صرح الله عز وجل: سوى الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. وللصائم فرحتان: فرحة نحو فطره وفرحة نحو مؤتمر ربه، ولَخُلوفُ(1) فم الصائم أطيب نحو الله من ريح المسك) [رواه البخاري ومسلم(2)].
الجديد دليل على فضل الصوم، وعظيم منـزلته نحو الله سبحانه وتعالى. وقد أتى في ذلك الجديد أربعٌ من فضائله الكثيرة.
الأولى: أن الصائمين يوَفّون أجورهم بغير حساب، فإن الممارسات كلّها ازداد بشكل مضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة تدهور سوى الصوم فإنه لا ينحصر تضعيفه في ذلك الرقم بل يضاعفه الله عز وجل أضعافًا كثيرة؛ لأن الصوم من الصبر. وقد صرح الله سبحانه وتعالى: ﮋ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍﮊ سورة الزمر، الآية: (10).
أفاد الأوزاعي رحمه الله: (ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم حجراتًا)(3).
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى أزاد الصيام إلى ذاته من ضمن سائر الإجراءات، وذلك – والله أعلم – لكونه يستوعب النهار كله. فيجد الصائم فقد شهوته، وتتوق ذاته إليها، خصوصا في نهار الصيف لطوله وشدة حره، ولأن الصوم سر بين العبد وربه لا يخرج عليه سوى الله سبحانه وتعالى، فهو عمل باطن لا يشاهده الخلق ولا يدخله رياء.
الثالثة: أن الصائم إذا لقي ربه فرح بصومه، وهذا لما يشاهده من جزائه وثوابه، وترتّب العقوبة عليه بقبول صومه الذي وفقه الله له.
وأما فرحته نحو فطره، فلتمام عبادته، وصحتها من المفسدات وحصول ما حظر منه الأمر الذي يوافق طبيعته. وذلك من الفرح المحمود؛ لأنه فرح بطاعة الله وتمام الصيام الموعود عليه المكافأة الجزيل.
الرابعة: أن رائحة فم الصائم أطيب نحو الله من ريح المسك. وذلك الطيب يكون الآخرة؛ لأنه الوقت الذي يتضح فيه مكافأة الأفعال؛ لرواية: (أطيب نحو الله الآخرة)(4).
وتلك الرائحة وإن كانت مكروهة في مشامّ الناس في الدنيا، لكنها أطيب نحو الله من ريح المسك، لكونها ناشئة عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
ومن فضائل الصوم أنه من عوامل مغفرة المعاصي وتكفير السيئات، فعن والدي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) [رواه البخاري ومسلم(5)].
إلا أن تلك الفضائل لا تكون سوى لمن صام مخلصًا لله تعالى عن الأكل والشراب والنكاح، وصامت جوارحه عن الآثام، فهذا هو الصيام المشروع الراتب عليه المكافأة الهائل. وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله عوز في أن يدع طعامه وشرابه)(6).
اللهم احفظ لنا صيامنا، واجعله شافعًا لنا، واعنّا فيه على طاعتك، وجنبنا أساليب معصيتك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
——-
(*) المادة مستفادة من كتاب مختصر أحاديث الصوم طبعة دار ابن الجوزي.
(1 ) الخلوف: بضم الخاء المعجمة، هو التحول في الفم، من باب (قعد). صرح عياض: قيدناه عن المتقنين بالضم، وأكثر المحدثين يفتحون الخاء، وهو غلط، وقد عده الخطابي في (غلطات المحدثين) فانظره ص (44)، و”فتح الباري” (4/105).
(2) البخاري (1894)، ومسلم (1151) (164).
(3) “شرح ابن عديد” (7/80).
(4) القصة لمسلم رقم (1151) (163).
(5) البخاري (1/92)، ومسلم (759)، وقوله: (من ذنبه) ظاهره غفران الصغائر والكبائر، إلا أن الشهير من مذاهب العلماء أن المرغوب الصغائر كما سيأتي.
(6) أخرجه البخاري (6057)، وانظر خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية على معناه في “منهاج السنة” (5/197، 198).
فضائل الصيام
الصوم عِبادةٌ من أجلِّ العِبادات، وقربةٌ من أشرف القُربات، وطاعةٌ مباركة لها آثارُها العظيمة الكثيرة، العاجلة والآجلة، من تزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وحفظ الجوارح والحواس من الفِتَن والشُّرور، وتهذيب الأخلاق، وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة، وتكفير السيِّئات المُهلِكة، والفوز بأعالي الدرجات، ولقد خصَّ الله عز وجل عبادة الصيام من بين العبادات بفضائل وخصائص عديدة، منها:
♦ باب من أبواب الخير: يعد الصوم باب من أبواب الخير؛ لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألا أدلُّك أبواب الخير) قلت: بلى يا رسول الله: قال: (الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل)، ثم تلا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾، حتى بلغ “يعملون”) (سورة السجدة، الآيتان: 16-17).
♦ المغفرة والأجر العظيم: الصيام من الأعمال التي يُعِدُّ الله بها المغفرة والأجر العظيم؛ لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (سورة الأحزاب، الآية 35).
♦ الصيام حِصْنٌ حصين من النار: يعد الصيام حِصْنٌ حصين من النار؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جُنَّةٌ وحِصْنٌ حَصِينٌ من النار) (أحمد 15/ 123، برقم 9225، وصحح إسناده محققو المسند، 15/ 123).
♦ الصيام جُنّةٌ من الشهوات: يعتبر الصيام جُنّةٌ من الشهوات؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاءٌ) (متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب الصوم، برقم 1905، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح، برقم 1400).
♦ الصيام خير للمسلم لو كان يعلم: يعد الصيام خير للمسلم لو كان يعلم؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ (سورة البقرة، الآية 184).
♦ الصيام سبب من أسباب التقوى: يعتبر الصيام سبب من أسباب التقوى؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﴾ (سورة البقرة الآية 183).
♦ الصوم جُنة: يعتبر الصوم جُنة (يقي صاحبه من النار)، يستجنُّ بها العبد المسلم من النار؛ لحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال ربنا عز وجل: الصيامُ جنةٌ يستجنُّ بها العبدُ من النار، وهو لي وأنا أجزي به)) (النهاية في غريب الحديث باب الجيم مع النون، مادة جنن، 1/ 308).
♦ وعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُعيذك بالله يا كعبَ بن عُجْرَةَ من أُمراءَ يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابَهم فصدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس منِّي ولستُ منه، ولا يرِدُ عليَّ الحوض، ومن غَشِيَ أبوابهم أو لم يغشَ فلم يصدقهم في كذبهم ولم يُعنهم على ظلمهم فهوَ منِّي وأنا منه، وسَيَرِدُ عليَّ الحوض، يا كعبَ بنَ عُجرةَ: الصلاةُ برهانٌ، والصومُ جنّةٌ حصينةٌ، والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، يا كعبَ بنَ عُجرةَ، إنه لا يدخل الجنة لحمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ، النارُ أولى به، يا كعبَ بنَ عُجرةَ، الناسُ غاديان: فمبتاعٌ نَفْسَه فمُعْتقها، وبائعٌ نَفْسَه فمُوبِقُها) (الترمذي، كتاب الصلاة، باب ذكر فضل الصلاة، برقم 614، وأحمد 22/ 332، برقم 14441، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 336).
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيامُ جُنَّةٌ كجُنَّةِ أحدكم من القتال) قال: وكان آخر ما عَهِدَ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى الطائف قال: (يا عثمان تجوَّز في الصلاة؛ فإن في القوم الكبير وذا الحاجة)، وفي لفظ: (الصيام جُنَّةٌ من النار كجُنَّةِ أحدكم من القتال) (أحمد 26/ 202، برقم 6273، و26/ 205، برقم 16278، و29/ 433، برقم 17902، وصحح إسناده محققو مسند الإمام أحمد).
♦ يباعد الله النار عن وجه صاحبه سبعين سنة: صيام يوم في سبيل الله يباعد الله النار عن وجه صاحبه سبعين سنة؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) (متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم 2840، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، برقم 1153).
♦ لا مثل له: الصوم وصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مثل له، ولا عدل؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله: مُرني بأمر ينفعني الله به، قال: (عليك بالصوم فإنه لا مِثْلَ له)، وفي لفظ: أن أبا أمامة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له)، وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مُرْني بعملٍ، قال: (عليك بالصوم فإنه لا عِدْل له)، قلت: يا رسول الله مرني بعملٍ، قال: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) (أخرجه النسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصيام، برقم 2220، 2221، 2222، 2223، وصححه الألباني في صحيح النسائي بجميع رواياته، 2/ 122، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1937، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 580)، وفي لفظ ابن حبان في صحيحه: قال أبو أمامة: أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً، فأتيته فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي بالشهادة، قال: (اللهم سلِّمهم وغنِّمهم)، فغزونا فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال: ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني أتيتك تترى ثلاث مرات أسألك أن تدعوَ لي بالشهادة، فقلت: (اللهم سلِّمهم وغنِّمهم)، فسلمنا وغنمنا، يا رسول الله، فمرني بعَمَلٍ أدخلُ به الجنة، فقال: (عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثْلَ لهُ)، فكان أبو أمامة لا يُرَى في بيته الدُّخانُ نهاراً، إلا إذا نزل بهم ضيفٌ، فإذا رأوا الدخان نهاراً، عرفوا أنه قد اعتراهم ضيفٌ) (صحيح ابن حبان، كتاب الصوم، باب ذكر البيان بأن الصوم لا يعدله شيء من الطاعات، برقم 3425، وهو عند أحمد، 5/ 255، والطبراني برقم 4763، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 580).
♦ يدخل الجنة من باب الريان: يدخل الجنة من باب الريان الصوم يدخل الجنة من باب الريان؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يُقالُ له: الريَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؛ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرُهم، فإذا دخل آخرهم أُغلق فلم يدخل منه أحد) (متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، برقم 1896، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم 1152)، وفي رواية: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يُسمَّى الريان لا يدخله إلا الصائمون) (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة أبواب الجنة، برقم 3257).
♦ من أول الخصال التي تُدْخِلُ الجنةَ: الصيام من أول الخصال التي تُدْخِلُ الجنةَ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح اليوم منكم صائمًا؟)، قال أبو بكر: أنا. قال: (فمن اتَّبع منكم اليوم جنازة؟)، قال أبو بكر: أنا. قال: (فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟)، قال أبو بكر: أنا. قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟)، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) (مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل من ضمَّ إلى الصدقة غيرها من أنواع البر، برقم 1028). ولفظ البخاري في الأدب المفرد: (ما اجتمعت هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة) (البخاري في الأدب المفرد، برقم 515، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص195).
♦ الصيام كفارة للذنوب: يعتبر الصيام كفارة للذنوب؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، تكفِّرها: الصلاة، والصوم، والصدقة، والأمر، والنهي)، وفي لفظ: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة كفارة، برقم 525، وكتاب الزكاة، بابٌ: الصدقة تكفر الخطيئة، برقم 1435، وكتاب الصوم، بابٌ: الصوم كفَّارة، برقم 1895، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم 144).
v♦ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك: يعتبر خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وقد دلَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يومُ صَوْمِ أحدِكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتله فليقل: إنِّي امرؤٌ صائمٌ، والذي نفسُ محمد بيده! لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربَّه فَرِحَ بصومه) (شرح النووي على صحيح مسلم، 8/ 279).
♦ يشفع لصاحبه يوم القيامة: الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة؛ لحديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان) (أحمد في المسند، 2/ 174، والحاكم، 1/ 554، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 579: (حسن صحيح).
♦ يزيل الأحقاد والضغائن والوسوسة من الصدور: الصوم يزيل الأحقاد والضغائن والوسوسة من الصدور؛ لحديث الأعرابي الصحابي، وحديث ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ: يذهبن وحر الصدر) (أخرجه البزار، برقم 1057، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 599: (حسن صحيح).
♦ سبب لدخول الجنة: من خُتِمَ له بصيام يومٍ يريد به وجه الله أدخله الله الجنة؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه قال: أسندتُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدري فقال: (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتِمَ له بها دخل الجنة) (مسند أحمد 5/ 391).
♦ علو المكانة في الجنة: أعد الله الغرف العاليات في الجنة لمن تابع الصيام المشروع، وأطعم الطعام، وألان الكلام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام؛ لحديث أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وأفشى السلام، وصلَّى بالليل والناس نيام) (أحمد في المسند، 5/ 343).
♦ يساعد على استجابة الدعوة: يساعد على استجابة الدعوة فالصائم له دعوة لا تُردُّ حتى يفطر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتحُ لها أبواب السماء، ويقول الربُّ: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) (ابن ماجه، كتاب الصيام، بابٌ: في الصائم لا تردُّ دعوته، برقم 1752، والترمذي، كتاب الدعوات، باب سبق المفردون، برقم 3598).
ورُوي عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره لدعوةً ما تُردُّ)، قال ابن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء أن تغفر لي) (ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا تردُّ دعوته، برقم 1753، والحاكم، 1/ 422).
♦ تفطير الصائمين فيه الأجر الكبير: تفطير الصائمين فيه الأجر الكبير؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً) (الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائماً، برقم 807، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب في ثواب من فطر صائمًا، برقم 1746، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 424).
♦ كفارة للذنوب: يعد الصيام كفارة للذنوب لعظم أجر الصيام جعله الله تعالى من الكفارات على النحو الآتي:
أ- كفارة فدية الأذى: يعد الصوم كفارة فدية الأذى لقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ (سورة البقرة، الآية: 196).
ب- كفارة الظهار: يعد الصوم كفارة الظهار لقول الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ (سورة المجادلة، الآيتان: 3 – 4).
ج-كفارة قتل الخطأ: يعد الصوم كفارة قتل الخطأ؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ (سورة النساء، الآية: 92).
د- كفارة اليمين: يعد الصوم كفارة اليمين لقول الله تعالى: ﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله ِباللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ (سورة المائدة، الآية: 89).
ك- من لم يجد الهدي: من لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله؛ لقول الله تعالى: ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الحَرَامِ ﴾ (سورة البقرة الآية: 196).
ل – جزاء قتل الصيد في الإحرام: يعد الصوم كفارة جزاء قتل الصيد في الإحرام لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ﴾ (سورة المائدة، الآية: 95).
م- كفارة الجماع في نهار شهر رمضان: يعد الصوم كفارة الجماع في نهار شهر رمضان؛ لحديث: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: (وَمَا أَهْلَكَكَ). قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي في رَمَضَانَ. قَالَ: (هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً). قَالَ: لاَ. قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ). قَالَ: لاَ. قَالَ: (فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا). قَالَ: لاَ، قَالَ ثُمَّ جَلَسَ فَأتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: (تَصَدَّقْ بِهَذَا). قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: (اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ) (متفق عليه: البخاري، برقم 1937، ومسلم، برقم 1111).
♦ يوفَّى الصائمون أجرهم بغير حساب: يوفَّى الصائمون أجرهم بغير حساب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام…) (شرح النووي على صحيح مسلم، 8/ 279).
♦ يعد فرحتان: للصائم فرحتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في الآخرة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام…) (شرح النووي على صحيح مسلم، 8/ 279).
♦ يبعد صاحبه عن النار كما بين السماء والأرض: صيام يوم في سبيل الله يبعد صاحبه عن النار كما بين السماء والأرض؛ لحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صامَ يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض) (الترمذي، كتاب فضائل، الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله، برقم 1624، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 223).
ميزة شهر رمضان
وفضائل الصيام وفوائده وآدابه
الحمدُ لله ذي المَنِّ والتوفيقِ والإنعام، شَرَعَ لعِبادِه شَهْرَ رمضان للصيام والقيام، مرَّةً واحدةً كُلَّ عام، وجَعَلَهُ أحَدَ أركانِ الإسلام ومَبانيهِ العِظام، ومُطهِّرًا للنفوس مِن الذنوب والآثام، والصلاةُ والسلامُ على مَنِ اختارَهُ اللهُ لبيانِ الأحكام، واصطفاهُ لتبليغِ شَرْعِه للأنام؛ فكان خَيْرَ مَنْ قام وصَام، وَوَفَّى واستقام، وعلى آله الأصفياء وصحابتِه الكِرام، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ على الدوام، أمَّا بعد:
فلقد فَرَضَ اللهُ تعالى الصيامَ على جميعِ الأُمَمِ وإِنْ اختلفَتْ بينهم كيفيتُه ووقتُه، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة]، وفي السَّنَةِ الثانية مِن الهجرة أَوْجَبَ اللهُ تعالى صيامَ رمضان وجوبًا آكدًا على المسلم البالغ، فإِنْ كان صحيحًا مُقيمًا وَجَبَ عليه أداءً، وإِنْ كان مريضًا وَجَبَ عليه قضاءً، وكذا الحائض والنُّفَساء، وإِنْ كان صحيحًا مُسافرًا، خُيِّرَ بين الأداءِ والقضاء، وقَدْ أَمَرَ تعالى المُكلَّفَ أَنْ يصوم الشهرَ كُلَّه مِنْ أوَّلِهِ إلى مُنْتهاهُ، وحدَّد له بدايتَه بحدٍّ ظاهرٍ لا يخفى عن أحَدٍ، وهو رؤيةُ الهلال أو إكمالُ عِدَّةِ شعبانَ ثلاثين يومًا؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»(١)، كما حدَّد له بدايةَ الصومِ بحدودٍ واضحةٍ جَليَّةٍ، فجَعَلَ سبحانه بدايةَ الصومِ بطلوع الفجر الثاني، وحدَّد نهايتَه بغروب الشمس في قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، وبهذه الكيفيةِ والتوقيتِ تَقرَّرَ وجوبُه حتميًّا في قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وصارَ صومُه ركنًا مِن أركانِ الإسلام، فمَنْ جَحَدَ فرضيته وأَنْكَرَ وجوبَه فهو مُرْتَدٌّ عن دِينِ الإسلام، يُسْتتابُ فإِنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ كُفْرًا، ومَن أَقَرَّ بوجوبه، وتَعَمَّدَ إفطارَه مِنْ غيرِ عُذْرٍ فقَدِ ارتكب ذَنْبًا عظيمًا وإثمًا مُبينًا يَسْتَحِقُّ التعزيرَ والردع.
هذا، وشهرُ رمضان مَيَّزَهُ اللهُ تعالى بميزاتٍ كثيرةٍ مِنْ بَيْنِ الشهور، واختصَّ صيامَه عن الطاعات بفضائلَ مُتعدِّدةٍ، وفوائدَ نافعةٍ، وآدابٍ عزيزةٍ.
ميزة شهر رمضان
ومِنْ ميزةِ هذا الشهرِ العظيمِ ما يلي:
– صوم رمضان: هو الركن الرابع مِنْ أركانِ الإسلام ومَبانيهِ العِظام؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ»(٢)، وهو معلومٌ مِن الدِّينِ بالضرورة وإجماعِ المسلمين على أنَّه فرضٌ مِنْ فروضِ الله تعالى.
– إيجابُ صيامِه على هذه الأُمَّةِ وجوبًا عينيًّا؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ﴾ [البقرة: ١٨٥].
– وإنزال القرآنِ فيه لإخراجِ الناس مِن الظلمات إلى النور، وهدايتِهم إلى سبيل الحقِّ وطريقِ الرشاد، وإبعادِهم عن سُبُلِ الغَيِّ والضلال، وتبصيرِهم بأمور دِينِهم ودُنْياهُمْ، بما يَكْفُلُ لهم السعادةَ والفلاحَ في العاجلةِ والآخرة، قال تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾ [البقرة: ١٨٥].
– ومنها: أنَّه تُفتَّحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ لكثرةِ الأعمال الصالحةِ المشروعةِ فيه المُوجِبةِ لدخول الجَنَّة، وأنَّه تُغْلَقُ فيه أبوابُ النارِ لقِلَّةِ المَعاصي والذنوب المُوجِبةِ لدخول النار.
– وأنَّه فيه تُغَلُّ وتُوثَقُ الشياطينُ؛ فتعجزُ عن إغواءِ الطائعين، وصَرْفِهِم عن العمل الصالح، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»(٣).
– ومنها: أنَّ لله تعالى في شهر رمضان عُتَقَاءَ مِن النار؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ للهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ»(٤).
– ومنها: أنَّ المغفرة تحصل بصيامِ رمضان بالإيمان الصادق بهذه الفريضة، واحتسابِ الأجر عليها عند الله تعالى؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(٥).
– ومنها: أنَّه تُسَنُّ فيه صلاةُ التراويح، اقتداءً بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي رَغَّبَ في القيام بقوله: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(٦).
– ومنها: أنَّ فيه ليلةً هي خيرٌ مِنْ ألف شهرٍ، وقيامها مُوجِبٌ للغفران؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ»(٧)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(٨).
– ومنها: أَنَّ صيام رمضان إلى رمضان تكفيرٌ لصغائرِ الذنوب والسَّيِّئات وكبائرها(٩)؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»(١٠).
وفضلًا عن ذلك، فإنَّ مِنْ أَبْرَزِ الأحداثِ النافعة الأخرى الحاصلةِ في رمضان: غزوةَ «بدرٍ الكبرى» التي فرَّق اللهُ فيها بين الحقِّ والباطل؛ فانتصر فيها الإسلامُ وأهلُه، وانهزم الشركُ وأهلُه، وكان هذا في السَّنَةِ الثانيةِ للهجرة، كما حَصَلَ فيه فتحُ مكَّة، ودَخَلَ الناسُ في دِينِ الله أفواجًا، وقُضِيَ على الشرك والوثنية بفضلِ الله تعالى؛ فصارَتْ مكَّةُ دارَ الإسلام، بعد أَنْ كانَتْ مَعْقِلَ الشركِ والمشركين، وكان ذلك في السَّنَةِ الثامنةِ للهجرة، كما انتصر المسلمون في رمضان مِنْ سنة (٥٨٤ﻫ)، في معركةِ «حِطِّين»، واندحر الصليبيون فيها(١١)، واستعاد المسلمون بيتَ المقدس، وانتصروا ـ أيضًا ـ على جيوش التَّتَارِ في «عين جالوت»، حيث دارَتْ وقائعُ هذه المعركةِ الحاسمة في شهر رمضان في سنة (٦٥٨ﻫ)(١٢).
هذا مُجْمَلُ ميزةِ شهرِ رمضان، وفضائلِه العديدة، وبركاتِه الكثيرة، والحمدُ لله ربِّ العالَمِين.
فضائل الصيام
أمَّا فضائلُ الصيامِ فمُتعدِّدةٌ منها:
– تُضاعَفُ فيه الحسناتُ مُضاعَفةً لا تَنْحصِرُ بعددٍ، بينما الأعمالُ الأخرى تُضاعَفُ الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سبعمائة ضِعفٍ؛ لِمَا رواهُ الشيخان مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»(١٣)؛ فيَتَجلَّى مِنْ هذا الحديثِ أنَّ الله اختصَّ الصِّيامَ لنَفْسِه عن بقيَّةِ الأعمال، وخصَّهُ بمُضاعَفةِ الحسنات ـ كما تَقدَّمَ ـ وأنَّ الإخلاص في الصيامِ أَعْمَقُ فيه مِنْ غيره مِن الأعمال؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي»(١٤)، كما أنَّ الله سبحانه وتعالى يَتَوَلَّى جزاءَ الصائم الذي يحصل له الفرحُ في الدنيا والآخرة، وهو فرحٌ محمودٌ؛ لوقوعه على طاعةِ الله تعالى، كما أشارَتْ إليه الآيةُ:﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ﴾ [يونس: ٥٨]، كما يُسْتفادُ منه أنَّ ما يَنْشَأُ عن طاعةِ الله مِنْ آثارٍ فهي محبوبةٌ عند الله تعالى على نحوِ ما يحصل للصائم مِنْ تَغيُّرِ رائحةِ فَمِهِ بسبب الصيام.
– ومِنْ فضائل الصيام: أنَّه يَشْفَعُ للعبد يوم القيامة، ويَسْتُرُهُ مِن الآثام والشهوات الضارَّة، ويَقيهِ مِنَ النار؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ»، قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ»(١٥)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ»(١٦).
– ومِنْ فضائله: أنَّ دُعاءَ الصائمِ مُسْتجابٌ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «…وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً»(١٧)، وقد جاء في أثناءِ ذِكْرِ آيات الصيام ترغيبُ الصائم بكثرة الدعاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: ١٨٦].
– ومِنْ فضائل الصيام: أنَّه مُوجِبٌ لإبعادِ النار عن الصائم يوم القيامة؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»(١٨).
– كما أنَّ مِنْ فضائله: اختصاصَ الصائمين ببابٍ مِنْ أبواب الجنَّةِ يدخلون منه دون غيرهم؛ إكرامًا لهم وجزاءً على صيامهم؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»(١٩)، وفي ذِكْرِ بعضِ هذه الخصائصِ والفضائلِ ما يُؤْذِنُ على الكُلِّ.
فوائد الصيام
أمَّا فوائدُ الصومِ فعظيمةُ الآثارِ في تطهيرِ النفوس، وتهذيبِ الأخلاق، وتصحيحِ الأبدان، فمنها:
– أنه يُعوِّدُ النفسَ على الصبر والتحمُّلِ على تَرْكِ مألوفِه، ومُفارَقةِ شهواته عن طواعيةٍ واختيارٍ، بحيث يَكْبَحُ جِمَاحَ شَهْوَتِهِ، وَيَغْلِبُ نَفْسَه الأمَّارَةَ بالسُّوء؛ فيَحْبِسُها عن الشهوات لتَسْعَدَ لطَلَبِ ما فيه غايةُ سعادتها وقَبولِ ما تَزْكُو به ممَّا فيه حياتُها الأبدية؛ فيُضيِّقُ مَجاريَ الشيطانِ بتضييقِ مَجاري الطعام والشراب، ويُذكِّرُ نَفْسَه بما عليه أحوالُ الجائعين مِن المساكين؛ فيتركُ المحبوباتِ مِنَ المُفَطِّرات لِمَحَبَّةِ ربِّ العالَمِين، وهذا السِّرُّ بَيْنَ العبد ومعبودِه هو حقيقةُ الصيام ومقصودُه.
– ومنها: أنَّه يُرقِّقُ القلبَ ويُليِّنُه لذِكْرِ الله فيُسهِّلُ له طريقَ الطاعات.
– ومِنْ فوائد الصيام: أنَّه مُوجِبٌ لتَقْوَى الله في القلوب، وإضعافِ الجوارح عن الشهوات، قال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة]، في مَعْرِضِ إيجابِ الصيام؛ لأنَّه سببٌ للتَّقوى لتضييقِ مَجاري الشهوات وإماتتها؛ إذ كُلَّما قَلَّ الأكلُ ضَعُفَتِ الشهوةُ، وكُلَّما ضَعُفَتِ الشهوة قَلَّتِ المَعاصي.
ومِنْ فوائده الطبِّيَّة: صحَّةُ البدن؛ لأنَّه يَحْمِي مِنِ اختلاط الأطعمة المسبِّبةِ للأمراض ويحفظ ـ بإذن الله ـ الأعضاءَ الظاهرة والباطنةَ كما قرَّرهُ الأطبَّاءُ.
آداب الصيام
للصيام آدابٌ ينبغي التحلِّي بها ليحصلَ التوافقُ مع أوامر الشَّرْعِ، ويُرتَّبَ عليه مقصودُه منه، تهذيبًا للنَّفس وتزكيتها، فيجتهدُ الصائمُ في أدائها كاملةً، والمُحافَظةِ عليها تامَّةً؛ إذ كمال صيامه موقوفٌ عليها، وسعادتُه منوطةٌ بها، فمِنْ هذه الآدابِ الشرعية التي يُراعيها في صيامه:
أوَّلًا: استقبالُ شهرِ رمضانَ بالفرح والغِبْطةِ والسرور؛ لأنَّه مِنْ فضلِ الله ورحمته على الناس بالإسلام، قال تعالى: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨﴾ [يونس]، ويحمد اللهَ على بلوغه، ويَسْألُ اللهَ تعالى إعانَتَه على صيامه، وتقديمِ الأعمالِ الصالحة فيه، كما يُسْتَحَبُّ له الدعاءُ عند رؤيةِ أيِّ هلالٍ مِنَ السَّنَةِ؛ لحديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا رأى الهلالَ قال: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللهُ»(٢٠)، على أَنْ لا يَسْتقبِلَ الهلالَ عند الدعاء، ولا يَرْفَعَ رأسَه إليه، ولا يَنْتصِبَ له، وإنَّما يَسْتقبِلُ بالدعاء القِبْلةَ.
ثانيًا: ومِنَ الآداب المُهِمَّةِ أَنْ لا يصوم قبل ثبوتِ بدايةِ الشهر على أنَّه مِنْ رمضان، ولا يصومَ بعد نهايته على أنَّه منه؛ فالواجبُ أَنْ يصومه في وقته المحدَّدِ شرعًا؛ فلا يَتقدَّمُ عليه ولا يَتأخَّرُ عنه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ»(٢١)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»(٢٢).
ثالثًا: المُداوَمةُ على السَّحور لبركته، واستحبابُ تأخيره؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»(٢٣)، وقد وَرَدَ في فضلِه وبركتِه ـ أيضًا ـ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «البَرَكَةُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الجَمَاعَةِ وَالثَّرِيدِ وَالسَّحُورِ»(٢٤)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ»(٢٥)، وقد جَعَلَهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عبادةً يتميَّزُ بها أهلُ الإسلام عن أهل الكتاب، فقال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»(٢٦). والأفضلُ أَنْ يَتسحَّرَ الصائمُ بالتَّمْر؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نِعْمَ سَحُورُ المُؤْمِنِ التَّمْرُ»(٢٧)، فإِنْ لم يَتَيَسَّرْ له التمرُ تَحَقَّقَ سحورُه ولو بِجرْعَةٍ مِنْ ماءٍ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»(٢٨).
ويبدأ وقتُ السَّحورِ قُبَيْلَ الفجر، وينتهي بتَبيُّنِ الخيط الأبيض مِن الخيطِ الأسود مِن الفجر، وإذا سَمِعَ النداءَ والإناءُ على يده، أو كان يأكل؛ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ حاجتَه منهما، ويَسْتكمِلَ شرابَه وطعامَه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ»(٢٩)؛ ففي هذه الرُّخصةِ الواردةِ في الحديثِ إبطالٌ لبدعةِ الإمساكِ قبل الفجر بنحوِ عَشْرِ دقائقَ أو ربعِ ساعةٍ. وإلزامُ التعبُّدِ بتوقيتِ الإمساكيةِ الموضوعةِ بدَعْوَى خشيةِ أَنْ يُدْرِكَ الناسَ أذانُ الفجرِ وهُمْ على سحورهم لا أصلَ له في أحكام الشريعة وآدابِها.
هذا، ويُسْتَحَبُّ تأخيرُ السحور؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ إِفْطَارَنَا، وَنُؤَخِّرَ سَحُورَنَا، وَنَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ»(٣٠).
وكان بين فراغه صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ السحور ودخوله في الصلاة قَدْرُ خمسين آيةً مُتوسِّطةً(٣١)؛ فقَدْ روى أَنَسٌ عن زيد بنِ ثابتٍ رضي الله عنه قال: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ»، قُلْتُ: «كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ(٣٢) وَالسَّحُورِ؟» قَالَ: «قَدْر خَمْسِينَ آيَةً»(٣٣).
وكان دَأْبُ الصحابةِ رضي الله عنهم تأخيرَ السحور؛ فعن عمرِو بنِ ميمون الأوديِّ قال: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا وَأَبْطَأَهُمْ سَحُورًا»(٣٤).
رابعًا: المُحافَظةُ على تعجيلِ الفِطْرِ لإدامةِ الناسِ على الخير؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»(٣٥)، وقولِه عليه الصلاةُ والسلام: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ»(٣٦)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ؛ لأَنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ»(٣٧)، وقد بيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم معنى هذا التعجيلِ في قوله: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ـ من جهة الشرق ـ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»(٣٨).
– آداب الفطر:
هذا، وتَقْتَرِنُ بالفِطْرِ جملةٌ مِنَ الآداب الشرعية، يُسْتَحَبُّ للصائم الالتزامُ بها، اقتداءً بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي:
١ ـ تقديم الفطر على الصلاة؛ لقولِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَطُّ صَلَّى صَلَاةَ المَغْرِبِ حَتَّى يُفْطِرَ وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ»(٣٩).
٢ ـ فِطْرُه على رُطَباتٍ، فإِنْ لم يجد فعلى تمراتٍ، فإِنْ لم يجد فعلى الماء؛ لحديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٍ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ»(٤٠).
٣ ـ دعاءُ الصائم عند الفطر بما ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه كان يقول ـ عند فِطْرِه ـ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ»(٤١).
خامسًا: ومِنْ آداب الصيام ـ أيضًا ـ: استحبابُ المُحافَظةِ على السِّواك مُطلقًا، سواءٌ كان المُكلَّف صائمًا أو مُفْطِرًا، أو استعمله رطبًا أو يابسًا، أو كان في أوَّلِ النهار أو في آخِرِه؛ للحضِّ عليه عند كُلِّ صلاةٍ، وعند كُلِّ وضوءٍ، في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»(٤٢)، وفي روايةٍ: «عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ»(٤٣). ولم يخصَّ الصائمَ مِنْ غيرِه، قال ابنُ عمر رضي الله عنهما: «يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ»(٤٤).
وَضِمْنَ هذا الحكمِ يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «…وأمَّا السِّوَاكُ فجائزٌ بلا نِزاعٍ، لكِنِ اختلفوا في كراهيته بعد الزوال على قولين مشهورَيْن، هُمَا روايتان عن أحمد، ولم يَقُمْ على كراهيته دليلٌ شرعيٌّ يصلح أَنْ يَخُصَّ عمومات نصوصِ السواك»(٤٥).
سادسًا: الاجتهاد في فعلِ الخيرات وتكثيفِ العبادات؛ فقَدْ كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في شهر رمضان يُكْثِرُ مِنْ أنواع العبادات، وأفعالِ الخير، وأَضْرُبِ البرِّ والإحسان؛ ففي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»(٤٦).
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يُكْثِرُ مِنْ قراءة القرآن فيه، ويُطيلُ قيامَ رمضان أَكْثَرَ مِمَّا يُطيلُه في غيره، ويجودُ بالصدقات والعطايا وسائرِ أنواعِ الإحسان، ويجتهدُ في العشر الأواخر ـ اعتكافًا وقيامًا وقراءةً وذِكْرًا ـ ما لا يجتهدُ في غيره؛ ففي الحديث: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»(٤٧).
ومِنَ العباداتِالتي نَدَبَ إليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم العمرةُ في رمضان؛ فَلَهَا ثوابٌ عظيمٌ يُساوي ثوابَ حَجَّةٍ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعائشة رضي الله عنها: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً»(٤٨)، ويُضاعَفُ أجرُ الصلاةِ في مَسْجِدَيْ مَكَّةَ والمدينةِ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»(٤٩)، فضلًا عن تكفيرِ الذنوب والسيِّئات بتَعاقُبِ العمرات على ما ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»(٥٠).
سابعًا: اجتنابُكُلِّ ما لا يُحقِّقُ الغايةَ مِنَ الصيام، وذلك بأَنْ يَحْترِزَ الصائمُ عن كُلِّ ما نَهَى الشرعُ عنه مِنْ سَيِّئِ الأقوال، وقبيحِ الأفعال المحرَّمةِ والمكروهة، في كُلِّ الأوقات، وبالأَخَصِّ في شهر رمضان التي يَعْظُمُ قُبْحُهَا في حقِّ الصائم؛ لذلك وَجَبَ عليه أَنْ يَكُفَّ لسانَه عمَّا لا خيرَ فيه مِنَ الكلام: كالكذب، والغِيبةِ، والنميمة، والشَّتْمِ، والخصام، وتضييعِ وقته بإنشاد الأشعار، وروايةِ الأسمار، والمُضْحِكاتِ، والمدحِ والذمِّ بغير حقٍّ، كما يجب عليه أَنْ يَكُفَّ سَمْعَه عن الإصغاء إليها، والاستماعِ إلى كُلِّ قبيحٍ ومذمومٍ شرعًا، ويعملَ جاهدًا على كَفِّ نَفْسِه وبدنه عن سائِرِ الشهوات والمحرَّمات: كغضِّ البصر ومَنْعِه مِنَ الاتِّساع في النَّظر، وإرسالِه إلى كُلِّ ما يُذَمُّ ويُكْرَهُ، وتجنيبِ بقيَّةِ جوارحه مِنَ الوقوع في الآثام؛ فلا يَمُدُّ يدَه إلى باطلٍ، ولا يمشي برجله إلى باطلٍ، ولا يأكل إلَّا الطيِّباتِ مِنْ غير إسرافٍ ولا استكثارٍ؛ ليصرفَ نَفْسَه عن الهوى، ويُقوِّيَها على التحفُّظِ مِنَ الشيطان وأعوانه، ومع ذلك كُلِّه يَبْقَى قلبُه ـ بعد الإفطار وفي آخِرِ كُلِّ عبادةٍ ـ دائرًا بين الرجاء في قَبولِ صيامِه ليكون مِنَ المقرَّبين، وبين الخوف مِنْ ردِّه عليه فيكون مِنَ المَمْقُوتِينَ.
هذا، وقد جاءَتْ في هذه المَعاني نصوصٌ شرعيةٌ تُرَهِّبُ الصائمَ مِنْ آفات اللسان والجوارح منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»(٥١).
وليس المقصودُ مِنْ شرعيةِ الصوم نَفْسَ الجوع والعطش، بل ما يَتْبَعُه مِنْ كسرِ الشهوات وتطويعِ النفس الأمَّارةِ للنَّفس المُطْمَئِنَّة؛ لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ»([٥٢]).
فالصائمُ حقيقةً هو مَنْ صام بَطْنُه عن الطعام، وجوارحُه عن الآثام، ولسانُه مِنَ الفُحْشِ ورَدِيءِ الكلام، وسمعُه عن الهذيانِ، وفَرْجُه عن الرَّفَثِ، وبصرُه عن النَّظَرِ إلى الحرام؛ فإِنْ تَكَلَّمَ لَمْ يَنْطِقْ بما يَجْرَحُ صومَه، وإِنْ فَعَلَ لم يفعل ما يُفْسِدُ صومَه؛ فيخرجُ كلامُه نافعًا وعملُه صالحًا. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»(٥٣)، وفي حديثٍ آخَرَ مرفوعًا: «لَا تُسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ»(٥٤).
هذا، وقد لا يحصل الصائمُ على ثوابِ صومه مع تَحَمُّلِه التعبَ بالجوع والعطش؛ إذا لم يُؤَدِّ صومَه على الوجه المطلوب بترك المنهيَّات؛ إذ ثوابُ الصومِ ينقص بالمَعاصي، ولا يَبْطُلُ إلَّا بمُفْسِداته، وفي الأحاديثِ المتقدِّمةِ ترغيبُ الصائم في العفو عن زلَّات المُخْطِئين، والإعراضِ عن إساءةِ المُسيئين.
ثامنًا: إعدادُ الإفطارِ للصائمين، الْتماسًا للأجر والثواب المُماثِلِ لأجورهم، وقد صحَّ في فضلِ ذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصْ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا»(٥٥).
تاسعًا: المُحافَظةُ على صلاة القيام وأداؤُها مع الجماعة؛ فينبغي الحرصُ عليها وعدَمُ التخلُّفِ عنها أو تركِها؛ لأنَّه يفوته خيرٌ كثيرٌ، وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُرغِّبُ أصحابَه في قيامِ رمضان مِنْ غيرِ أَنْ يأمرهم بعزيمةٍ، ويقولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(٥٦).
وخاصَّةً وأنَّ في العَشْرِ الأواخر مِنَ الشهرِ ليلةً هي خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، جَعَلَ اللهُ فيها الثوابَ العظيمَ لمن قامَها وغفرانَ ما تَقدَّمَ مِنَ المَعاصي والذنوب، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(٥٧). وقد جاء في فضلِ قيامِ رمضان جماعةً قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»(٥٨)، لذلك يحرصُ الصائمُ على المُحافَظةِ عليه في الجماعةِ لئلَّا يَحْرِمَ نَفْسَهُ مِنْ هذا الخيرِ العظيم، والأجرِ العميم.
الخاتمة
هذا، وختامًا فعلى المسلمِ الاهتمامُ بدينه، والعنايةُ بما يُصحِّحُه على الوجهِ المشروع لتَتَرتَّبَ فوائدُه عليه، لا سيَّما أركان الإسلام ومَبانيه العِظام، ومنها: عبادة صومِ رمضان التي تَتكرَّرُ في حياةِ المسلم مرَّةً واحدةً كُلَّ عامٍ؛ فعلى المسلمِ الذي وفَّقَهُ اللهُ لصيامِ شهرِ رمضان، وقيامِ لَيَالِيهِ على وجهِ الإخلاص والمُتابَعةِ أَنْ يختمه بكثرةِ الاستغفار والانكسار بين يَدَيِ اللهِ تعالى، والاستغفارُ ختامُ كُلِّ الأعمال والعبادات؛ فلا يَغْتَرَّ المؤمنُ بنَفْسِه ويُعْجَبْ بعمله ويُزكِّه، بل الواجبُ أَنْ يعترف بقِلَّةِ عمله في حقِّ الله تعالى وتقصيرِه فيه، ودورانِه بين القَبولِ والرَّدِّ؛ فلذلك كان السلفُ يجتهدون في إتمامِ العمل وإكماله وإتقانه، ثمَّ يَهْتمُّون بعد ذلك بقَبولِه ويخافون مِنْ ردِّه، وهؤلاء وَصَفَهم اللهُ تعالى بأنهم: ﴿يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠]، أي: خائفةٌ لا يَأْمَنُونَ مَكْرَ الله؛ فكانوا ـ مع الخوف مِنْ عدَمِ القَبولِ ـ يُكْثِرُون مِنَ الاستغفارِ والتوبةِ مع اهتمامهم بقَبولِ العملِ أَشَدَّ اهتمامًا منهم بالعمل؛ لأنَّ القَبولَ عنوانُ التقوى، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٧﴾ [المائدة].
وإذا كان المُنافِقُ يَفْرَحُ بفراقِ شهرِ رمضان ليَنْطَلِقَ إلى الشهوات والمَعاصي التي كان محبوسًا عنها طيلةَ الشهر؛ فإنَّ المؤمن إنَّما يفرح بانتهاءِ الشهرِ بعد إتمامِ العمل وإكمالِه رجاءَ تحقيقِ أجوره وفضائلِه، ويَسْتتبِعُه بالاستغفار والتكبير والعبادة. وقد أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بالاستغفار الذي هو شعارُ الأنبياءِ عليهم السلام مقرونًا بالتوحيد، والعبدُ بحاجةٍ إليهما ليكون عَمَلُه على التوحيد قائمًا، ويُصْلِحَ بالاستغفارِ تزكيةَ عملِه وإعجابَه به وما يَعْترِيهِ مِنْ نقصٍ أو خللٍ أو خطإٍ، وفي هذا السياقِ مِنِ اقترانِ الأمرِ بالتوحيد والاستغفار يقول اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ ١٩﴾ [محمَّد]، وقال في شأن يونس عليه السلام: ﴿فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٧﴾ [الأنبياء].
نسألُ اللهَ تعالى أَنْ يرزقَنا خيراتِ هذا الشهرِ وبركاته، ويَرْزقَنا مِنْ فضائلِه وأجورِه، ولا يَحْرِمَنا مِنَ العملِ الصالحِ فيه وفي غيرِه، كما نَسْألُهُ سبحانه التوفيقَ والسداد، والقَبولَ والعفوَ عن التقصير.
والحمدُ لله ربِّ العالَمِين، وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٧ رجب ١٤٢٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ أوت ٢٠٠٥م
(١) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٦) بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨١) رقم: (١٠٨٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» (١/ ٩) باب: دعاؤُكم إيمانُكم، ومسلمٌ في «الإيمان» (١/ ٢٨) رقم: (١٦)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما، وقد وَقَعَ في «صحيح البخاريِّ» تقديمُ الحجِّ على الصوم، وعليه بَنَى البخاريُّ ترتيبَه، لكِنْ وَقَعَ في «مسلمٍ» مِنْ روايةِ سعد بنِ عُبَيْدةَ عن ابنِ عمر بتقديمِ الصومِ على الحجِّ، قال: فقال رجلٌ: «والحجُّ وصيامُ رمضان»، فقال ابنُ عمر: «لا، صيامُ رمضانَ والحجُّ، هكذا سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم». [«فتح الباري» لابن حجر (١/ ٥٠)].
(٣) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٥) باب: هل يُقالُ: رمضانُ أو شهرُ رمضان، ومَنْ رأى كُلَّه واسعًا، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨١) رقم: (١٠٧٩)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) أخرجه ابنُ ماجه في «الصيام» (١٦٤٣) بابُ ما جاء في فضلِ شهر رمضان، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما، وأحمد في «مسنده» (٥/ ٢٥٦)، مِنْ حديث أبي أُمامة الباهليِّ رضي الله عنه. والحديثُ حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع » (٢١٦٦).
(٥) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» (١/ ١٥) باب: صومُ رمضان احتسابًا مِنَ الإيمان، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقصرِها» (١/ ٣٤٣) رقم: (٧٦٠)، مِنْ حديثِ أبيهريرة رضي الله عنه.
(٦) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» (١/ ١٥) باب: تطوُّعُ قيامِ رمضان مِنَ الإيمان، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقصرِها» (١/ ٣٤٣) رقم: (٧٥٩)، مِنْ حديثِ أبيهريرة رضي الله عنه.
(٧) أخرجه ابنُ ماجه في «الصيام» (١٦٤٤) بابُ ما جاء في فضل شهرِ رمضان، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه. والحديث حَسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٢٤٧).
(٨) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٥) بابُ مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونيَّةً، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقصرِها» (١/ ٣٤٣) رقم: (٧٦٠)، مِنْ حديثِ أبيهريرة رضي الله عنه.
(٩) انظر ـ على الموقعِ ـ الكلمةَ الشهرية:«أثر عبادة الحجِّ والعمرة في وقاية النفس وتطهيرِها مِنَ الذنوب ـ عمومٌ ومُسْتثنَيَاتٌ»، وما فصَّله شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في «مجموع الفتاوى» (٧/ ٤٨٩ وما بعدها).
(١٠) أخرجه مسلمٌ في «الطهارة» (١/ ١٢٥) رقم: (٢٣٣)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٤٠٠، ٤١٤، ٤٨٤)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(١١) انظر انهزامَ الفرنج ﺑ «حطِّين» في:«الكامل» لابن الأثير (١١/ ٥٣٤).
(١٢) انظر وقائِعَ «عين جالوت» في:«البداية والنهاية» لابن كثير (١٣/ ٢٢٠).
(١٣) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٤) بابُ فضلِ الصوم، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٥١١) رقم: (١١٥١)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٤) أخرجه أحمد في «المسند» (٩١٢٧).
(١٥) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ١٧٤)، مِنْ حديثِ عبد الله ابنِ عمرٍو رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (١٠/ ١١٨)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣٨٨٢).
(١٦) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ٤٠٢)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الهيثميُّ في «مَجْمَعِ الزوائد» (٣/ ٤١٨)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣٨٨٠).
(١٧) عزاهُ الهيثميُّ في «مَجْمَعِ الزوائد» (٣/ ٣٤٦) للبزَّار، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب» (١٠٠٢).
(١٨) أخرجه البخاريُّ في «الجهاد والسِّيَر» (٢/ ٥٠) بابُ فضلِ الصومِ في سبيل الله، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٥١٢) رقم: (١١٥٣)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.
(١٩) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٤) بابُ الريَّان للصائمين، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٥١١) رقم: (١١٥٢)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما.
(٢٠) أخرجه ـ بهذا اللفظ ـ ابنُ حِبَّان (٣/ ١٧١)، وهو عند الترمذيِّ في «الدعوات» (٣٤٥١) بابُ ما يقول عند رؤية الهلال، قال الألبانيُّ في «الكَلِم الطيِّب» (٩١): «صحيحٌ بشواهِدِه».
(٢١) تَقدَّمَ تخريجه، انظر: (الهامش: ١).
(٢٢) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٥) باب: هل يُقالُ: رمضان أو شهرُ رمضان ومَنْ رأى كُلَّه واسعًا، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٢) رقم: (١٠٨٠)، مِنْ حديثِ ابنِعمر رضي الله عنهما.
(٢٣) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٩) بابُ بَرَكةِ السحورِ مِنْ غيرِ إيجابٍ، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٨) رقم: (١٠٩٥)، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
(٢٤) أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» (٦/ ٢٥١)، والبيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» (٦/ ٦٨)، مِنْ حديثِ سلمان رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٣٦).
(٢٥) أخرجه أحمد في «مسنده» (٣/ ١٢)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، وأخرجه ابنُ حِبَّان (٨/ ٢٤٥)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألبانيُّ بمجموعِ طُرُقِه في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢١٢).
(٢٦) أخرجه مسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٨) رقم: (١٠٩٦)، مِنْ حديثِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما.
(٢٧) أخرجه أبو داود في «الصيام» (٢٣٤٥) بابُ مَنْ سمَّى السَّحورَ: الغَدَاءَ، وابنُ حِبَّان (٨/ ٢٥٣)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ١٠٤).
(٢٨) أخرجه ابنُ حِبَّان (٨/ ٢٥٣)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما. والحديث حَسَّنه الألبانيُّ. انظر: «السلسلة الضعيفة» (٣/ ٥٩٥).
(٢٩) أخرجه أحمد (٢/ ٤٢٣،٥١٠)، وأبو داود في «الصيام» (٢٣٥٠) بابٌ في الرجلِ يَسْمَعُ النداءَ والإناءُ على يَدِه، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٣٨١).
(٣٠) أخرجه ابنُ حِبَّان (٥/ ٦٧)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٣٨)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٢٨٦).
(٣١) ففي روايةٍ للبخاريِّ عن أنس بنِ مالكٍ: «أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وزيدَ ابنَ ثابتٍ تَسَحَّرَا، فلمَّا فَرَغَا مِنْ سحورهما قام نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الصلاة فصلَّى». قال قَتادةُ: قلنا لأنسٍ: «كم كان بين فراغهما مِنْ سَحورهما ودخولِهما في الصلاة؟» قال: «قَدْرُ ما يقرأ الرجلُ خمسين آيةً». [«صحيح البخاري» (١/ ١٤٣)].
(٣٢) والمرادُ به: أذانُ الإقامة؛ لأنَّ الإقامة يُطْلَقُ عليها أذانٌ، كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» مُتَّفَقٌ عليه.
(٣٣) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٩) باب: قدرُ كَمْ بين السَّحور وصلاةِ الفجر؟ ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٨) رقم: (١٠٩٧).
(٣٤) أخرجه عبدُ الرزَّاق في «المصنَّف» (٤/ ١٧٣)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٣٨). وصحَّح الحافظُ إسنادَه في «الفتح» (٤/ ٢٣٥).
(٣٥) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٦٩) بابُ تعجيلِ الإفطار، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٩) رقم: (١٠٩٨)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما.
(٣٦) أخرجه ابنُ خزيمة (٣/ ٢٧٥)، وابنُ حِبَّان (٨/ ٢٧٧)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب» (١٠٧٤).
(٣٧) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ٤٥٠)، أبو داود في «الصيام» (٢٣٥٣) بابُ ما يُسْتحَبُّ مِنْ تعجيلِ الفطر، مِنْ حديثِ أبيهريرة رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٦٨٩).
(٣٨) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٦٧) باب: متى يَحِلُّ فِطْرُ الصائم؟ ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٤٨٩) رقم: (١١٠٠)، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.
(٣٩) أخرجه ابنُ حِبَّان (٨/ ٢٧٤)، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألبانيُّ في «الصحيحة» (٥/ ١٤٦).
(٤٠) أخرجه أحمد في «مسنده» (٣/ ١٦٤)، وأبو داود في «الصيام» (٢٣٥٦) بابُ ما يُفْطَرُ عليه. وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٤٥).
(٤١) أخرجه أبو داود في «الصيام» (٢٣٥٧) بابُ القولِ عند الإفطار، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٥٨٤)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وحسَّنه الدارقطنيُّ وأقرَّهُ الحافظُ في «التلخيص الحبير» (٢/ ٤١٢)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٣٩).
(٤٢) أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» (١/ ٢١٢) بابُ السواكِ يومَ الجمعة، ومسلمٌ في «الطهارة» (١/ ١٣٢) رقم: (٢٥٢)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤٣) أخرجه البخاريُّ معلَّقًا في «الصيام» (١/ ٤٦٢) بابُ سواك الرطب واليابس للصائم. وذَكَرَ الحافظُ في «الفتح» (٤/ ١٨٩): أنَّ النسائيَّ وَصَلَه، وعند ابنِ خزيمة (١/ ٧٣): «مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ». وانظر: «الإرواء» للألباني (١/ ١١٠).
(٤٤) ذَكَرَهُ البخاريُّ معلَّقًا في «الصيام» (١/ ٤٦١) بابُ اغتسالِ الصائم، قال الحافظ في «الفتح» (٤/ ١٨٤): «وَصَلَهُ ابنُ أبي شيبة عنه بمَعْناهُ». وانظر: «مختصر صحيح البخاري» للألباني (٤٥١)، رقم: (٣٦٦).
(٤٥) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٥/ ٢٦٦). قال الحافظ في «التلخيص» (٢/ ٢٠٢): «فائدة: روى الطبرانيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ عن عبد الرحمن بنِ غَنْمٍ قال: سألتُ مُعاذ بنَ جبلٍ: «أأتَسوَّكُ وأنا صائمٌ؟» قال: «نعم»، قلت: «أيَّ النهارِ؟» قال: «غَدوةً أو عَشيَّةً»، قلت: «إنَّ الناس يكرهونه عشيةً، ويقولون: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ»»، قال: «سبحان الله! لقد أمرهم بالسِّواك وما كان بالذي يأمرهم أَنْ يُنتِنوا أفواهَهم عمدًا، ما في ذلك مِنَ الخير شيءٌ، بل فيه شرٌّ».
(٤٦) أخرجه البخاريُّ في «الصيام» (١/ ٤٥٥) باب: أجودُ ما كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يكون في رمضان، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢/ ١٠٩٢) رقم: (٢٣٠٨)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٤٧) أخرجه البخاريُّ في «صلاة التراويح» (١/ ٤٨٢) باب العمل في العشر الأواخر مِنْ رمضان، ومسلمٌ في «الاعتكاف» (١/ ٥٢٦) رقم: (١١٧٤)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
(٤٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أبواب العمرة» (١/ ٤٢٦) بابُ عمرةٍ في رمضان، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١/ ٥٧٣) رقم: (١٢٥٦)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٤٩) أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» (١/ ٢٨٤) بابُ فضلِ الصلاة في مسجد مكَّةَ والمدينة، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١/ ٦٢٦) رقم: (١٣٩٤)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥٠) أخرجه البخاريُّ في «الحجِّ» بابُ وجوبِ العمرة وفضلِها (١/ ٤٢٥)، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١/ ٦١٣) رقم: (١٣٤٨)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥١) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٦) بابُ مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به في الصوم، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ٣٧٣)، وابنُ ماجه في «الصيام» (١٦٩٠) بابُ ما جاء في الغِيبةِ والرفث للصائم، واللفظُ له، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣٤٨٨).
(٥٣) أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١/ ٤٥٦) باب: هل يقول: إنِّي صائمٌ إذا شُتِمَ، ومسلمٌ في «الصيام» (١/ ٥١١) رقم: (١١٥١)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥٤) أخرجه ابنُ خزيمة في «صحيحه» (٣/ ٢٤١). وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٣٥).
(٥٥) أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ١١٤)، والترمذيُّ في «الصوم» (٨٠٧) بابُ ما جاء في فضلِ مَنْ فطَّر صائمًا، مِنْ حديثِ زيدِ ابنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦٤١٥).
(٥٦) تَقَدَّمَ تخريجه، انظر: (الهامش: ٦).
(٥٧) تَقَدَّمَ تخريجه، انظر: (الهامش: ٨).
(٥٨) أخرجه أبو داود في «الصلاة» (١٣٧٥) بابٌ في قيام شهر رمضان، مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (١٦١٥).
لصَّوْمُ في الإسلام نوع من العبادات الهامة، وأصل الصَّوْمُ (ص و مـ)، يقال: صام صَوْمًا وصِيامًا أيضًا، في اللغة: مطلق الإمساك،[1] أو الكف عن الشيء، ومنه قول الله تعالى حكاية عن مريم: ﴿فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا..﴾[2] أي: إمساكا عن الكلام. والصوم في الشرع الإسلامي عبادة بمعنى: «الإمساك عن المفطرات على وجه مخصوص، وشروط مخصوصة من طلوع الفجر الثاني، إلى غروب الشمس، بنية». ولا يقتصر على صوم شهر رمضان، بل يشمل جميع أنواع الصوم، وهو إما فرض عين وهو صوم شهر رمضان من كل عام، وما عداه إما واجب مثل: صوم القضاء أو النذر أو الكفارة. وإما تطوع ويشمل: المسنون المؤكد، والمندوب (المستحب) والنفل المطلق، ومن الصوم أيضا ما يشرع تركه وهو الصوم المنهي عنه كصيام يوم الشك، ويحرم صوم يوم عيدي الفطر والأضحى.
والصوم في الإسلام هو: عبادة يتفق المسلمون على تحديد ماهيتها وأساسياتها، فهو بمعنى: «الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بنية»، كما أن صوم شهر رمضان من كل عام: فرض بإجماع المسلمين، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفضائله متعددة، ويشرع قيام لياليه، وخصوصاً العشر الأواخر منه، وفيه ليلة القدر، وتتعلق به زكاة الفطر، وهو عند المسلمين موعد للفرحة، والبر والصلة، وعوائد الخير. وفرض الصوم على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، بأدلة منها قول الله تعالى: ﴿ْكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَُ﴾،[3] وقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..﴾،[4] وحديث: «بني الإسلام على خمس..» وذكر منها: صوم رمضان، وحديث الأعرابي السائل عن شرائع الدين، قال: هل علي غيره؟ أي: صوم رمضان، قال في الحديث: «لا، إلا أن تطوع شيئا». وصوم شهر رمضان من كل عام: فرض على كل مسلم مكلف مطيق للصوم غير مترخص بسبب المرض أو السفر، ولا يصح الصوم إلا من مسلم عاقل مع خلو المرأة من الحيض والنفاس. وللصوم أحكام مفصلة في علم فروع الفقه، ومنها وجوب الصوم، وأركانه، وشروطه، ومبطلاته، ومستحباته، ومكروهاته، وأحكام الفطر، والأعذار الشرعية المبيحة للفطر، ومواقيت الصوم، لدخول الشهر وخروجه، ووقت الإمساك، والتسحر، والإفطار، والقضاء والأداء وغير ذلك.
محتويات
1 تعريف الصوم
1.1 في اللغة
1.2 بالمعنى الشرعي
2 مشروعية الصوم في الإسلام
2.1 فرض الصوم
2.2 في الأمم السابقة
2.3 الأصل في مشروعية الصوم
2.4 مراحل تشريع الصوم
2.5 رخصة المرض والسفر
2.6 التخفيف في وقت الصوم
2.7 أدلة فرض الصوم
2.8 صوم شهر رمضان
3 مواقيت الصوم
3.1 ليلة الصيام
4 فضائل الصوم
4.1 فضل الصوم
4.2 ثواب الصوم
4.3 فضل صوم رمضان
4.4 مما ورد في فضل الصوم
4.5 أدب الصيام وسلوك الصائم
4.6 فوائد الصوم
5 الأحكام الفقهية للصوم
5.1 أنواع الصوم
5.2 أركان الصوم
5.3 شروط الصوم
5.4 مبطلات الصوم
5.5 سنن الصوم
5.6 تأخير السحور
5.7 تعجيل الإفطار
6 صوم النفل
6.1 الفطر في صوم النفل
7 أنواع صوم التطوع
7.1 صوم شهر المحرم
7.2 صوم عاشوراء
7.3 صوم ست من شوال
7.4 صوم يوم عرفة لغير الحاج
7.5 صوم الإثنين والخميس
7.6 صوم ثلاثة أيام من كل شهر
7.7 صوم يوم وفطر يوم
8 معرض الصور
9 انظر أيضًا
10 الملاحظات
11 المراجع
12 وصلات خارجية
تعريف الصوم
في اللغة
الصَّوْمُ في اللغة مصدر بمعنى: الإمساك مطلقا، سواء كان إمساكا عن المشي أو عن الفعل والحركة أو إمساكا عن الكلام أو عن الأكل والشرب أو غير ذلك، قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم.[5] ومادته: (ص و مـ)، والفعل صام مثل قال، والصوم أو الصيام بمعنى واحد، قال في القاموس المحيط: صام صوما وصياما واصطام: أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير،[6] قال ابن فارس: (صوم) الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان، من ذلك صوم الصائم هو إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما منعه، ويكون الإمساك عن الكلام صوما.[7] ومنه قول الله تعالى: ﴿فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا. (٢٦)﴾ قال ابن عباس: صمتا، أي: إمساكا عن الكلام،[8] ويقويه قوله تعالى: ﴿فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا﴾ والامتناع عن الكلام بهذه الصفة المذكورة في قصة مريم إنما هو إخبار عن حكم في شرع سابق، أما في شريعة الإسلام؛ فالامتناع عن الكلام مع الناس لا يعد عبادة، بل هو من التنطع المنهي عنه، فيأخذ الحكم في الشرع الإسلامي منحى وسطا بين الإفراط والتفريط، ويدل على هذا حديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»، وحديث: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث».
قال ابن منظور: «الصوم: ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، صام يصوم صوما وصياما واصطام، ورجل صائم وصوم من قوم صوام وصيام وصوم بالتشديد».[9] فالصَّوْمُ: إمساك عن أيَّ فعلٍ أو قَوْل كان.[10] فالسكوت عن الكلام يسمى في اللغة صوما. قال الخليل: الصوم قيام بلا عمل، والصوم أيضا الإمساك عن الطعم وقد صام الرجل من باب قال، وصياما أيضا، وصام الفرس قام على غير اعتلاف، وصام النهار قام قائم الظهيرة واعتدل، والصوم أيضا ركود الرياح،[5] وقال ابن فارس: والصوم: استواء الشمس انتصاف النهار، كأنها ركدت عند تدويمها، وكذا يقال: صام النهار، قال امرؤ القيس: إذا صام النهار وهجرا، ومصام الفرس: موقفه، وكذلك مصامته، قال الشماخ: إذا ما استاف منها مصامة.[7] وفي القاموس المحيط: وصام منيته: ذاقها، والنعام: رمى بذرقه وهو صومه، والرجل: تظلل بالصوم لشجرة كريهة المنظر، والنهار: قام قائم الظهيرة، والصوم: الصمت وركود الريح ورمضان والبيعة، والصائم: للواحد والجميع، وأرض صوام كسحاب: يابسة لا ماء بها، ومصام الفرس ومصامته: موقفه.[6] ويقال: صام الفرس صوما أي: قام على غير اعتلاف، وقال في المحكم: وصام الفرس على آريه صوما وصياما إذا لم يعتلف، وقيل: الصائم من الخيل القائم الساكن الذي لا يطعم شيئا؛ قال النابغة الذبياني:
.
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
قال أبو منصور الأزهري في ترجمة صون: الصائن من الخيل القائم على طرف حافره من الحفاء، وأما الصائم، فهو القائم على قوائمه الأربع من غير حفاء. وفي التهذيب: الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم؛ لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرس صائم لإمساكه عن العلف مع قيامه.[9] قال سفيان بن عيينة: «الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان على الطعام والشراب والنكاح، ثم قرأ: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾».[9]
قال ابن منظور: «وفي الحديث: «قال النبي Mohamed peace be upon him.svg: قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي». قال أبو عبيد: إنما خص الله تبارك وتعالى الصوم بأنه له وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البر كلها له وهو يجزي بها؛ لأن الصوم ليس يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية في القلب وإمساك عن حركة المطعم والمشرب يقول الله تعالى: فأنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف وليس على كتاب كتب له؛ ولهذا «قال النبي Mohamed peace be upon him.svg: ليس في الصوم رياء»».[9] والصوم: ترك الأكل. قال الخليل: والصوم قيام بلا عمل. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير، فهو صائم. والصوم: البيعة. وصامت الريح: ركدت. والصوم: ركود الريح. وصام النهار صوما إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة؛ قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
وصامت الشمس: استوت. التهذيب: وصامت الشمس عند انتصاف النهار إذا قامت ولم تبرح مكانها. وصام النعام إذا رمى بذرقه، وهو صومه. قال في المحكم: صام النعام صوما ألقى ما في بطنه. والصوم: عرة النعام، وهو ما يرمي به من دبره. وصام الرجل إذا تظلل بالصوم، وهو شجر كما نقل عن ابن الأعرابي.[9] قال أبو زيد: أقمت بالبصرة صومين أي رمضانين. وقال الجوهري: رجل صومان أي صائم.[9] وقال الجوهري: الصوم شجر في لغة هذيل. قال ابن بري: وصوام جبل؛ قال الشاعر:
بمستهطع رسل كأن جديله بقيدوم رعن من صوام ممنع.[9]
بالمعنى الشرعي
الصَّوْمُ في شريعة الإسلام عبادة مخصوصة بمعنى: «الإمساك عن المفطرات، على وجه مخصوص بنية»، والصوم والصيام كلاهما بمعنى واحد في اللغة والشرع، قال ابن جرير: والصيام مصدر، من قول القائل: “صُمت عن كذا وكذا” يعني: كففت عنه، أصوم عَنه صوْما ًوصياماً، ومعنى الصيام: الكف عما أمر الله بالكف عنه، ومن ذلك قيل: “صَامت الخيل”، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
خَـيْلٌ صِيَـامٌ وخَـيْلٌ غَـيْرُ صَائِمَةٍ تَحْـتَ العَجَـاجِ وأُخْـرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا.
ومنه قول الله تعالى ذكره: ﴿فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ..الآية﴾[11]، يعني: صمتًا عن الكلام.[12][13] والصَّوْم بالمعنى الشرعي هو: «الإمساك عن المفطرات، على وجه مخصوص، في زمن مخصوص بنية»، أو: «الإمساكٌ عن المُفْطِرَاتِ من طلوع الفَجْرِ إلى غروب الشمس مع النِّيَّة». والنية في الصوم لا زمة عند جمهور الفقهاء، بصرف النظر عن كونها ركنا من أركان الصوم أو شرطا من شروطه. قال ابن حجر في فتح الباري: «والصوم والصيام في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة». وقال صاحب المحكم: «الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام»، قال الراغب: الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل: للفرس الممسك عن السير صائم، وفي الشرع: «إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب».[14] وقال السرخسي في المبسوط: «وفي الشريعة: عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الكف عن قضاء الشهوتين شهوة البطن وشهوة الفرج، من شخص مخصوص، وهو أن يكون مسلما طاهرا من الحيض والنفاس وفي وقت مخصوص، وهو ما بعد طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة، وهو أن يكون على قصد التقرب، فالاسم شرعي فيه معنى اللغة».[15] قال ابن قدامة: «والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة، في وقت مخصوص».[16] وقال في الذخيرة الصوم في الشرع: «الإمساك عن شهوتي الفم والفرج وما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار وبنية قبل الفجر أو معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد».[17] وقال ابن عرفة: «الصوم رسمه عبادة عدمية وقت طلوع الفجر حتى الغروب»، وقال ابن رشد: «إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية».[17] أو هو: إمساك مخصوص عن المفطرات يوما كاملاً، من شخص مخصوص بنية، وفق شروط مخصوصة عند الفقهاء؛ لأن الصوم عمل، والنية لازمة شرعاً لصحة الأعمال، ونية الصوم لازمة باتفاق أئمة المذاهب الفقهية فلا يصح الصوم إلا بالنية، وهذا لا خلاف عليه؛ لقول النبي Mohamed peace be upon him.svg: «لا صيام لمن لم بيت النية ليلا».[18] وهو محمول على صوم الفرض عند الجمهور، ووقت النية من بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أما في صوم النفل؛ فتمتد النية إلى ما قبل الزول بشرط عدم تعاطي أي مفطر بعد الفجر.
مشروعية الصوم في الإسلام
فرض الصوم
الصوم من العبادات المشروعة في الإسلام، وفرض في السنة الثانية للهجرة، ونزلت فيه آيات من القرآن الكريم، دلت على فرضيته على المسلمين، وأنه كان مفروضا على من كان قبلهم في الشرائع السابقة، وشرعت أحكامه ومواقيته، في آيات الصيام، وبينت تفاصيل أحكامه ومواقيتة، بالأحاديث النبوية؛ لأن الحديث النبوي مفسر للقرآن، وشارح له، قال الله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس﴾، وقال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾،[19] وفي الحديث: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه».[20] والأصل في مشروعية الصيام قبل الإجماع: أدلة من الكتاب والسنة، فمن القرآن قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.[21] وهو دليل فرض الصيام على المسلمين، وكان هذا في بداية فرضه، ثم نزل بعد ذلك من القرآن الكريم تحديد مقدار الصوم المفروض وبيان زمنه ومواقيته المتعلقة به في قول الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.. الآية﴾، إلى قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.[22] وفي هذه الآية الأمر الصريح بوجوب صوم شهر رمضان على المسلمين المكلفين. ومعنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُوا﴾: يا أيها الذين ءامنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أي: فُرض عليكم الصيام، ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، أي: كما فُرض على الذين من قبلكم، من الأمم السابقة، فهو من الشرائع القديمة، وكان فرضه على الأنبياء وأممهم،[23] قال أبو جعفر الطبري في تفسير الآية: فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم، وذكر أقوالا في الذين فرض عليهم الصوم من قبل فرضه على المسلمين، وفي المعنى الذي وقع فيه التشبيه بين فرض صومنا وصوم الذين من قبلنا، الأول: أن صوم شهر رمضان فرض على النصارى، وتشبيه صيامهم بصيام المسلمين هو اتفاقهما في الوقت والمقدار، الذي هو لازم للمسلمين اليوم فرضُه، عن الشعبي أنه قال: «لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان، وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل، وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يوماً، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حتى صارت إلى خمسين، فذلك قوله: ﴿كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم﴾».[24] وقيل بل التشبيه إنما هو من أجل أن صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة، وهو الذي فرض على المسلمين في بداية فرضه؛ روى ابن جرير الطبري عن أسباط، عن السدي: أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين.[25] وفي رواية: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة، وعن قتادة: رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم، وعن مجاهد: ﴿كما كتب على الذين من قبلكم﴾ أي: أهل الكتاب، وفي قول: أنه كان مفروضا على الناس كلهم، قال أبو جعفر: «وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية: يا أيها الذين ءامنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب، ﴿أَيَّاما مَّعْدُودَاتٍ﴾، وهي شهر رمضان كله؛ لأن مَن بعدَ إبراهيم Mohamed peace be upon him.svg كان مأمورا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جعله للناس إماما، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ، فأمر نبينا Mohamed peace be upon him.svg بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء، وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت، وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء».[26]
في الأمم السابقة
تدل النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على أن الصيام الذي فرضه الله على المسلمين كان مفروضا على الأمم السابقة، حيث أن الله هو الذي شرع الأحكام لعباده، وأن العبادة لله وحده لا شريك له، وتؤكد شريعة الإسلام أن الدين كله لله، وهو الذي أرسل الرسل ليبلغوا الناس، ودين الأنبياء واحد، وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا. وقد ذكر المفسرون: أن الصيام كان مفروضا على الأمم السابقة، وأنه كان مفروضا على أهل الكتاب، فأما اليهود فقد فرض الله عليهم الصيام ولكنهم حولوه فصاموا يوما من السنة، وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني «عن دغفل بن حنظلة عن النبي Mohamed peace be upon him.svg قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه، قال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوما».[27]
وفي نص الآية الدالة على فرض الصيام جملة من الدلالات ومن أهمها: فرض الصيام على الناس، وأن الإيمان بالله والإسلام له وحده شرط في صحة العبادة، والخطاب في هذه الآية موجه لمن آمن بالله وبجميع رسله، ويؤكد نص الآية على أن الخلق كلهم عباد لله، وأن الخالق المعبود بحق هو الله وحده لا شريك له، وهو الذي أرسل جميع الرسل وله الدين الخالص، وفي النص القرآني من هذه الآية دلالة واضحة على أن الله هو الذي شرع الأحكام لعباده، فكما أنه فرض الصيام على الأمة المحمدية فكذلك فرض هذه العبادة على الأمم السابقة حيث يقول الله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ (١٨٣)، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسير الآية: «في هذا التشبيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم، وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله». ثم ذكر القول الثاني بقوله: «والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف؛ لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور، فأما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا».[28]
فالذي فرضه الله على الأنبياء وأممهم هو أصل إيجاب الصوم، وأما حمل التشبيه على أنه من حيث الوقت والقدر؛ فقد ذكر القائلون بهذا القول وجوها منها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على أهل الكتاب: (اليهود والنصارى)، قال الرازي: «أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضا؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله Mohamed peace be upon him.svg، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه فزادوا عشرا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعا فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوما، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا..﴾ سورة التوبة آية: 31 وهذا مروي عن الحسن».[28] الوجه الثاني: مروي عن الشعبي وهو: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما؛ ولهذا كره صوم يوم الشك.[28] والوجه الثالث: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم، واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.. الآية (١٨٧)﴾ يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه، ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما.[28]
الأصل في مشروعية الصوم
Crystal Clear app kdict.png مقالة مفصلة: آيات أحكام الصيام
ذكرت آيات أحكام الصيام ضمن سورة البقرة في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (١٨٣)
﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَ ٰتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (١٨٤)
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنََـٰتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَ ٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (١٨٥)
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾ (١٨٦)
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالۡـَٰٔنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (١٨٧)
—سورة البقرة، آية: (١٨٣ و١٨٤ و١٨٥ و١٨٦ و١٨٧)
ثبتت مشروعية الصوم في الإسلام بأدلة من الكتاب والسنة، فمن الكتاب آيات أحكام الصيام وهي: آيات من القرآن الكريم، في سورة البقرة تضمن الأحكام الشرعية، المتعلقة بالصوم، وأهم ما اشتملت عليه: فرض الصيام على المسلمين، وبيان مقدار مواقيت الصوم، والرخصة للمريض والمسافر، والفدية وإطاقة الصوم، ثم اختصاص شهر رمضان بالفرضية، وتعيين صيامه، ونزلت آيات تحديد وقت الصيام من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وأحكام الاعتكاف، وأدلة فرض الصيام من القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (١٨٣) ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَ ٰتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (١٨٤) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنََـٰتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَ ٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (١٨٥).
وأما أدلة مشروعية الصوم من السنة النبوية؛ فهي إيضاح لنصوص القرآن وبيان ما فيه من أحكام ذكرت فيه إجمالا، وتفصيلها، وبيان الأحكام الشرعية التي لم تذكر في القرآن، بل بنص السنة إذ أن القرآن منقول بطريق السنة، والوحي إما نص من القرآن أو من الحديث النبوي، مثل بيان المواقيت التي دل الحديث النبوي على بيانها، فالسنة هي بيان لمراد الله، فعدد الصلوات مثلا: لم يعلم بيانه إلا بطريق السنة، وقد جاء في الحديث: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه».[29] ومعنى «أوتيت الكتاب»: أي القرآن «ومثله معه»: أي الوحي الباطن غير المتلو أو تأويل الوحي الظاهر وبيانه بتعميم وتخصيص وزيادة ونقص، أو أحكاما ومواعظ وأمثالا تماثل القرآن في وجوب العمل أو في المقدار. قال البيهقي: هذا الحديث يحتمل وجهين أحدهما: أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أوتي من الظاهر المتلو، والثاني أن معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي مثله من البيان أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن. قراه».[20] وفي الحديث دليل على وجوب اتباع السنة والأخذ بها، كما دلت عليه نصوص القرآن.[° 1]
مراحل تشريع الصوم
للصوم في الإسلام مراحل تشريعية من قبل أن يفرض على المسلمين صوم شهر رمضان إلى أن استقرت الأحكام واكتمل الدين، فمن خصائص التشريع الإسلامي للأحكام أن الله هو الذي شرع الأحكام، فكان بيانها على لسان رسوله خلال فترة نزول الوحي، فلم تشرع الأحكام كلها جملة واحدة، بل كان بطريق التدرج في تشريعها، بطريق التعليم الرباني الذي يقصد به: تعليم الأحكام شيئا فشيئا، وتركزت مراحل التشريع الإسلامي في بدايتها على الإيمان بالله والبرهنة على وجود الله وأنه خالق كل شيء، والمستحق وحده للعبادة، ومن ثم فإن الكثير من الأحكام لم تشرع إلا بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، بما فيها الصوم الذي هو في نفس الوقت لم يشرع جملة واحدة، بل شرع في مراحل، وكان المسلمون قبل أن يفرض عليهم صوم رمضان يصومون يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وكان الناس في الجاهلية يصومون يوم عاشوراء، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة وجدوا اليهود يصومونه، فسئلوا عنه فقالوا: ذلك يوم نجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون فنحن نصومه شكرا لله، وفي الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء وقالوا: إن موسى صامه، وإنه اليوم الذي نجوا فيه من فرعون وغرق فرعون فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال: نحن أحق بموسى منهم». و«عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله Mohamed peace be upon him.svg يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه».[30] قال النووي: اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء سنة ليس بواجب، واختلفوا في حكمه في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا، واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين مشهورين: أشهرهما عندهم: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبا، كقول أبي حنيفة، واستدل القائلون بالوجوب بقوله: «وأمر بصيامه»، ودليل القائلين بعدم وجوبه حديث: «لم يكتب الله عليكم صيامه»، وحديث: «من شاء صامه ومن شاء تركه»، وهذا الخلاف إنما هو فيما كان في صدر الإسلام، أما بعد تعيين صوم رمضان؛ فهو سنة مستحبة بالإجماع.[31]
كان فرض الصوم في أول فرضه على المسلمين في أيام معدودات، وأنه ليس في كل يوم؛ لئلا يشق على النفوس، فتضعف عن حمله وأدائه، بل جعل فرضه في أيام معدودات، أي: قلائل، كما يدل على هذا نص الآية: ﴿أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ۚ﴾ أي: أن تصوموا أياما معدودات هي أيام شهر رمضان، قال الطبري: وأما المعدودات: فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها، وعنى بقوله: ﴿معدودات﴾: محصيات.[32]
وكان الصوم على التخيير، في بداية فرضه؛ لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون﴾، فعن معاذ بن جبل قال: كان في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا، ثم نسخ حكم التخيير بآية فرض صوم رمضان، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ﴾: كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وعن نافع عن ابن عمر، قال: «هي منسوخة». وذهب أكثر العلماء إلى أن الآية منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا، خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ﴾ (١٨٥)، وقال قتادة: هي خاصة في حق الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ وقال الحسن: هذا في المريض الذي به ما يقع عليه اسم المرض وهو مستطيع للصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ﴾، وثبتت الرخصة للذين لا يطيقون، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، ومعناه وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر فعليهم الفدية بدل الصوم وقرأ ابن عباس: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ﴾ بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها، بلفظ: ﴿يُطَوَّقُونَهُ﴾ بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى: يكلفونه.[33] أي: يكلفون الصوم، وتأويله على الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه فهم يكلفون الصوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكينا وهو قول سعيد بن جبير وجعل الآية محكمة.[34]
وقال السدي عن مرة عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ﴾ قال: يقول: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي: يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا، ﴿فمن تطوع خيرا﴾ أي: أطعم مسكينا آخر؛ ﴿فهو خير له﴾ ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾: فكانوا كذلك حتى نسختها: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾.[35]