
اهمية صيام ايام 10 المباركة !!
في زحمة الحياة العينية القاسية التي تتجاوز بالمسلمين والناس أجمعين وفي غمرة التكالب على الدنيا والانشغال بزخرفها وزينتها والاغترار بأوهامها وأمانيها…..ترتكس الروح وتنتكس ويصاب الفؤاد ويتلوث بأكدار الدنيا وغبارها وتتوق النفس المؤمنة إلى هذا الفضاء الرحب وهذه المعاني السامية والمشاعر والأحاسيس الصادقة .
معرفة الله – الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء – تقلب ظروف بني آدم و عوز أرواحهم منزل الحين والآخر إلى نفحات إيمانية ونفوسهم إلى شحنات ربانية و قلوبهم إلى محطات يصلحون بها ما فسد فيه أو انحرف….فجعل لهم في أيام دهرهم نفحات يتعرضون لها فيغسلون بها أدران القلوب ويزيلون أثناء ساعاتها ودقائقها ما علق في الروح والنفس والفؤاد من سوء و ران وما تلبست به الجوارح من إثم وذنب ومعصية .
ليس من باب المبالغة أوالتهويل القول : إن أيام عشر ذي الحجة التي سيستهلها المسلمون تلك الليلة أو ليلة غد هي من أعظم العطاء والنفحات الإلهية التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على عباده وتفضل بها على خلقه , وكيف لا وقد قابل فيها كل أصناف العبادات والطاعات من صلاة وصيام وصدقة وزكاة وحج وأوضح لله تعالى .
في تلك الأيام والليالي المبروكة يتوافد حجاج منزل الله الحرام و ضيوف الرحمن إلى أطهر بقاع الأرض وأقدسها لأداء طقوس شعيرة الحج والعمرة وإعلان منتى الخضوع والاستسلام لأوامر الله سبحانه وتوضيح قصد التبتل والانكسار لإله الأرض والسماء .
وفي أيام وليالي عشر ذي الحجة المبروكة يزداد بشكل مضاعف مكافأة الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة للحاج ولغير الحاج إلى أضعاف مضاعفة , ويتبارى المتنافسون من عباد الله الصالحين إلى الشغل الصالح وفعل الخيرات وترك المنكرات لما فيها من الأجر والمكافأة الهائل .
أتى في الجديد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ) . يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : ( وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ ) سنن الترمذي برقم2440 وصححه الألباني .
كثيرة هي الإجراءات الصالحة التي لا ينبغي أن تمض المؤمن الحريص على تلقي نفحات الله في تلك الأيام قبل فواتها , و متعددة هي العبادات والطاعات التي لا يحسن بالمسلم أن يضيع واحدة منها في تلك الأيام والليالي العشر .
أولى تلك الإجراءات والطاعات هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي غابت عن عديد من المؤمنين ولا نكاد نجد لها تنفيذا واسعا في مجتمعات الموحدين , ألا وهي سنة الإكثار من التهليل والتكبير والتسبيح في تلك الأيام المبروكة , فقد أتى مسند الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله سبحانه وتعالى عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ) .
أفاد الإمام البخاري رحمه الله : “كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله سبحانه وتعالى عنهما يخرجان إلى مكان البيع والشراء في أيّام العشر يكبران ويكبر النّاس بتكبيرهما”، وصرح كذلك : ” وقد كان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل أماكن البيع والشراء حتى ترتج منى تكبيرا” , كما كان ابن عمر رضي الله سبحانه وتعالى عنهما يكبر بمنى هذه الأيّام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه هذه الأيّام جميعا .
الصدقة والإنفاق في طريق الله والإكثار من أفعال البر والإحسان وقضاء حوائج المسلمين ودفع الأذى عنهم وحسن الجوار ونجدة الملهوف رابط الأرحام …….من الإجراءات الصالحة التي قد تغيب في بعض الأحيان عن عقول بعض المسلمين في تلك الأيام المبروكة نظرا لخطأ قصر الإجراءات الصالحة الواردة في الحديث الشريف على الصلاة والصيام والعبادات الشعائرية فحسب !!!
لاشك أن صوم الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة سنة ومستبحة استحبابا صارما كما أفاد الإمام النووي رحمه الله لدخولها في عموم الشغل الصالح الوارد في الجديد السليم ولما ورد بخصوصها عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بصيام تسع ذي الحجة، ويوم يوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من شهرياً ) أبو داود وأحمد والنسائي .
ليس اغتنام أيام عشر ذي الحجة ولياليها وجوب روحية قلبية نفسية أخلاقية فحسب , بل هي ايضا وجوب حياتية دنيوية جسدية , فالصحة البدنية المأمولة و الحياة السعيدة المنشودة و……..لا من الممكن أن تُنال بغير طاعة الله ومرضاته .
مكونات الخطبة
1/ عوز العباد إلى مَواسِم روحانيَّة يُجدِّدون معها إيمانَهم 2/ فضائل العشر الأول من ذي الحجة 3/ أفضَلُ إجراءات المخلصين في الأيَّام العشر 4/ فضائل الإجراءات في العشر الأول من ذي الحجة 5/ الإكثار من الباقيات الصالحات 6/ ظروف المحرومين في العشر 7/ الأضحية أحكامٌ وآداب
اقتباس
لقد عَمَّ فضْل الله على أمَّة محمدٍ وطابَ، يومَ أنْ خصَّهم بأيَّامٍ فاضِلات يُضاعف فيها الثَّواب؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، هذه العشر المبارَكات التي أشْرَقت أيَّامها، بخيرها وخَيْراتها، وأجرِها ومُضاعَفاتها، هذه العشر التي أوْدَع الله فيها من الفَضائِل ما لم يُودِعه في غيرها ..
معاشِرَ المسلمين: تقسُو القلوب وتَجفُّ الألسنة، يحلُّ الفتور وتتمكَّن الغَفلة، ويؤزُّ الشيطان النفسَ إلى هَواها أزًّا؛ (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، فيَحتاج العبْد في أيَّام دَهرِه إلى مَواسِم روحانيَّة يُجدِّد معها إيمانَه، ويُحاسِب فيها تقصيرَه، وينفض غبار الغَفلَة عن قَلبِه، وينمِّي في رُوحِه شعورَ العبوديَّة الحقَّةِ لله تعالى.
لقد عَمَّ فضْل الله على أمَّة محمدٍ وطابَ، يومَ أنْ خصَّهم بأيَّامٍ فاضِلات يُضاعف فيها الثَّواب؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1 – 2]، هذه العشر المبارَكات التي أشْرَقت أيَّامها، بخيرها وخَيْراتها، وأجرِها ومُضاعَفاتها، هذه العشر التي أوْدَع الله فيها من الفَضائِل ما لم يُودِعه في غيرها.
ويَكفِي استِشعارًا لفَضْلها أنَّ الجهاد في طريق الله، والذي هو ذروَةُ سَنَام الإسلام، وأعدَّ الله لأهْله مائةَ درجة في الجنَّة – لا يُرجعِل أجرُه وثوابه الشغلَ الصالح في مثْل تلك الأيَّام؛ صرح – صلَّى الله عليه وسلَّم -: “ما العمَلُ في أيَّام العشر أفضل من العمَل في تلك”، صرحوا: ولا الجهاد؟ أفاد: “ولا الجهاد، سوىَّ رجُل خرَج يُخاطِر بنفسه وماله، فلم يَرجِع بشيءٍ”؛ رواه البخاري.
وتحدث – صلَّى الله عليه وسلَّم -: “أفضَلُ أيَّام الدنيا أيَّام العشر”؛ رواه أبو يعلى والبزَّار وصحَّحه الألباني.
فحَرِيٌّ بأهل الإيمان، ومَن تَحاجزُوهم الجنَّة والرِّضوان، أنْ يستَعِدُّوا لتلك الأيَّام استِعدادَها، ويَقدُروها في النُّفوس حقَّ قدرِها.
يا أهل الإيمان: ها هي أيَّام الرحمن قد حَلَّ وقتها، فأحسِنُوا ضِيافَتها، وأَكرِمُوها بحسن اغتِنامِها، وملء صَحائِف الممارسات من ثَوابِها.
كم هو جميلٌ – عبادَ الله – أنْ تُستَقبل تلك الأيَّام بتحديث التوبة مع الله – تعالى – توبة يستَذكِر فيها المرءُ ماضيه، ويضَعُ ممارساتَه في ميزان المحاسَبة، فَيُبْصِر حينَها معاصيًا سوَّلَها الشيطان، وخَطِيئات زيَّنتها النَّفس الأمَّارة؛ فيُورِثه هذا ندَمًا على ما فات، ومُجافَاةً للذنب فيما هو آت، وما لزم عبدٌ بابَ الاستِغفار والتوبة فكان توَّابًا أوَّابًا، سوىَّ أشرَقتْ عليه شمس النجاح في دنياه، وسَرَّه ما يَلقاه في صحيفته في أُخرَاه.
صرح – صلَّى الله عليه وسلَّم -: “مَن أحبَّ أنْ تسرَّه صحيفتُه، فليُكثِر فيها من الاستغفار”؛ رواه البيهقي وغيرُه، وحسَّنه الألباني .
وإذا اجتَمَع للمسلم توبة نصوح مع أفعالٍ صالحةٍ في أزمنةٍ فاضلة، فقد تقلَّد الفَلاح، وتوسَّم التوفيق، (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص: 67].
إخوةَ الإيمان: وأفضَلُ أفعال المخلصين التي تُقدَّم في تلك الأيَّام حجُّ منزل الله الحرام، مَن أدَّاه بنيَّة خالصة واتِّباع صحيح، فهنيئًا له تكفيرُ السيِّئات، والفَوْز بالجنَّات؛ أفاد – عليه الصَّلاة والسَّلام -: “مَن حجَّ فلم يرفث ولم يَفسُق، رجَع كيوم ولدَتْه أمُّه”؛ رواه البخاري.
وفي الصحيحين أنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أفاد: “والحجُّ المبرور ليس له جَزاء سوىَّ الجنَّة”.
يا أهلَ الصوم، بُشراكم تلك الأيَّام، فمع الصوم يُجاب الدُّعاء والنَّجوى، ويغرس في الفؤاد التقوى، ويُباعِد المرء وجهَه عن نارٍ تلظَّى، ويسطر الصائم اسمَه في ديوان أهل الريَّان، ولا تَسَلْ عقب هذا عن أجْر الصِّيام وثوابه؛ “سوىَّ الصيام، فإنَّه لي وأنا أجزي به”.
قفزَت عن رسولِ الهدى – أتْقَى الناس وأعبَد الخلْق – أنَّه كان يقوم بصيام تسع ذي الحجة؛ رواه الإمام أحمد والنسائي، وصحَّحه الألباني.
يا أصحابَ الأيادي البيضاء، وأهل الفَضل والعَطاء، ذلك مَوسِم الإنفاق والإحسان، ذلك مَوعِدٌ يُسَلُّ فيه الشُّحُّ من النُّفوس، فيا لله كم رسمَتْ أعطياتُكم البَملمح على الشِّفاه، وكم واسَتْ نفوسًا مَكلُومة، وكم كسَبَتْ قلوبًا استمرَّت وفيَّة لكم بالثَّناء والدُّعاء.
تذكَّروا – يا رَعاكُم الله – أنَّ تلك الصدَقات مبالغةٌ لكم في أموالكم، وأنَّ هذه الأعطيات هي في الحقيقة منكم وإليكم؛ (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) [البقرة: 197]، وتحدث – تعالى -: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ: 39]، فأبشِرُوا أبشِرُوا بالعِوَض والمُضاعَفة، واسمَعُوا إلى تلك البشارة من نبيِّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين أفاد: “إنَّ الله يَقبَل الصدقة ويَشقيقُذها بيَمِينه فيُربِّيها كما يُربِّي واحد منُكم مُهرَه، حتى إنَّ اللُّذروة لَتَصِيرُ مثلَ أُحُد”؛ رواه الترمذي، وهو عصري صحيح.
وتَصدِيق هذا في كتاب الله – تعالى -: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 104]، و(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276].
إخوةَ الإيمان: العَجُّ بالذِّكر وتَرطِيب الألسِنة بالتكبير والتهليل، شعارُ تلك الأيَّام، وعنوانٌ تتميَّز به، كيف لا؟ وقد خصَّهَا المولى – سبحانه – بأنها أيَّام ذكْرٍ لله؛ (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28]. أفاد ابن عباس، ومجاهد،
وسعيد بن جبير: هي أيَّام العشر.
ولهذا كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يُوصِي أصحابَه بقوله: “ما من أيَّامٍ أعظَمُ نحو الله ولا أحبُّ إليه من الشغل فيهنَّ من تلك الأيَّام؛ فأكثِرُوا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد”؛ رواه الإمام أحمدُ وغيره.
فيا مَن يَرجُو طمأنينة الفؤاد، هاكَ واحات الذِّكر قد تَلألأَتْ، فعِشْ معها نفَحات التكبير والتحميد، ونسمات التهليل والتمجيد.
لا تَنْسَ الإكثارَ من الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله سوى الله، والله أضخم.
لا تَغفُل عن الكلمتَيْن الخفيفتَيْن على اللسان، الثقيلتَيْن في الميزان، الحبيبتَيْن للرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله الكبير.
وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تعم ما بين السماء والأرض، ومَن صرح: “سبحان الله الكبير وبحمده، غُرِسَتْ له بها نخلةٌ في الجنَّة”، و”لا بشأنَ ولا قوَّةَ سوىَّ بالله كنزٌ من كنوز الجنَّة”.
إلى غير هذا من فضائل الذكر التي يَضِيق المقام عن عَدِّها؛ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].
فيا مَن يرجو الله واليومَ الآخر، ها هي أيام المضاعَفة، وسُوق المرابحة، فالغنيمةَ الغنيمةَ بالذهاب للخارج منها بأربَحِ المَكاسِب، وأجزل المَواهِب.
وإذا شاهدتَ من نفسك حضوراً ، فزِدْ فيها أعمالاً.
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا *** فَإِنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُون
وَلاَ تَغْفُلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا *** فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُون
عباد الله: ومع فضائل العشر ومنحها تغفُل نفوسٌ، وتفتر هِمَم، فتجعل من تلك الأيام الصالحات مَوسِمًا للبطالة والقيل والقال، والسهر والتسمُّر في مواجهة القنوات.
مغبونٌ واللهِ مَن مرَّت به تلك العشر، فلم يحظَ منها بمغفرة، أو تُقَل له عَثْرَةٌ.
محرومٌ والله مَن انصَرَف عن طاعة ربِّه، فلم يَخشَعْ قلبُه لحظةً، ولم تذرف عينُه دمعةً.
شقيٌّ مَن ساءَتْ خَلِيقته، وأحاطَتْ به خَطِيئته، فهامَ في أودية الآثام، وغاصَ في لُجَجِ الذنوب والحَرام، لم يَعرِف للعشر فضلاً، ولم يعظِّم للزمن شرفًا، فأيُّ رُقاد أعظم من ذلك الإفلاس، وأيُّ جلوس أقوى من ذلك الإبلاس.
معاشرَ المؤمنين: وكما أنَّ الطاعات في مَوسِم الخيرات يَزداد شرفُها، ويَعظُم أجرُها، فكذا الذنوب في الأزمِنة الفاضلة يَعظُم جرمُها، ويَزداد قبحُها؛ صرح شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله -: “والذنوب في الأيَّام الفاضلة والأمكِنة المفضَّلة تغلظ، وعِقابها بقَدْرِ فضيلة الدهر والمكان”؛ ا.هـ.
فاتَّقوا الله أيُّها المسلمون، واغتَنِموا فُرَصَ الحياة، وسَوانِح الزمن، فلا ندري والله هل نُدرِك مثلَ تلك الأيَّام الفاضِلات مرَّات ومرَّات، أم نكون من المُجندَلِين في قبورهم، المُرتَهنين على أعمالهم؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
بارَك الله لنا ولكم في القُرآن الهائل، ونفعَنِي وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستَغفِر الله لي ولكم، فاستَغفِروه وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما عقب … ومن تَمام التقوى ولزوم الإحسان شُكْرُ المولى – عزَّ وجلَّ – والتقرُّب إليه بذبح الأضاحي، سنَّة سنَّها الخليلُ – عليه السلام – وتأسَّى به الأنبِياء، وتَبِعَهم المؤمنون عبر حِقَبِ الزمان الماضي.
أقامَ النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالمدينة عشرَ أعوام مُداوِمًا على الأضحية.
روى البخاري ومسلم عن أنسٍ أنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ضحَّى بكبشَيْن أملحَيْن أقرنَيْن، ذبَحَهما بيده، وسمَّى وكبَّر، ووَضَع رجلَه على صِفاحهما.
وتلك الأضحية – عبادَ الله – لها أحكامٌ وآداب، منها:
– أنها في أصلها حكمه مستحبَّة غيرُ واجبة، على السليم من أقوال أهل العلم.
– ومَن أراد أنْ يُضحِّي فيجب عليه أنْ يُمسِك عن شعره وأظفاره، فلا يأخُذ منه شيئًا؛ صرح – عليه الصلاة والسلام – : “إذا شاهدتُم هِلالَ ذي شعيرة الحجَّة وأراد واحد منُكم أنْ يُضحِّي، فليُمسِك عن شَعرِه وأظفارِه”؛ رواه مسلمٌ في صحيحه.
ومَن شقيقَذ من شعره وظفره لاحتياجٍ، فلا شيءَ عليه، ومَن قصَّ من شعره وظفره لغير حاجَةٍ وجبَتْ عليه التوبةُ وعدَم الرجوع، ولا كفَّارة عليه، وذلك الحكم في المنْع من شقيقْذ الشعر والأظفار خاصٌّ بصاحب الأضحية، أمَّا الأهل والأبناء ومَن يُضَحَّى عنهم، فلا يَلزَمُهم هذا.
ومن أحكام الأضحية:
– أنَّه يُشرَع للمُضحِّي أنْ يأكُل من أضحيته، ويُهدِي ويتصدَّق كما صرح – سبحانه -: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28]، وصرح أيضًا: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج: 36]، والقانع: هو السائل المتذلل، المعتر: هو المتعرض للعطية دون سؤال.
– أنْ تُذبح في الوقت المحدَّد لها، ويَبدَأ وقتُ الذبح من في أعقاب صلاة العيد، ويطولُّ وقتُها إلى غُرُوب شمس يوم الثالث عشر.
– ويجب – عبادَ الله – أنْ تصل الأضحية العمرَّ المُجزِئ شرعًا؛ للغنم سنة، وللضَّأن والكَبْش ستَّة أشهر، وللإبل خمس أعوام، وللبقر سنتان.
– ويجب أيضًا أنْ تكون الأضحية صحيحةً سليمةً، شاغرة من الخلل والنقائص، وخيرُ الأضاحي أغلاها وأنفَسُها نحو أهلها.
أفاد شيخ الإسلام – رحمه الله -: “والأجر في الأضحية على قدْر المقدار مطلقًا”.
ذلك، وإنَّ ذبْح الأضحية على الوجْه المشروع هو من تعظيم مناسك الله، وسبيلٌ لحصول التقوى؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج: 37].
فطِيبُوا بأضاحيكم نفسًا، وكُلُوا منها، وتهادوا وتصدَّقوا، نسأَلُ الله – عزَّ وجلَّ – أنْ يتقبَّل من الجميع صالِحَ الشغل، وأنْ يجعَلَنا من المُسارِعين إلى الفَضْل قبلَ إجابات الأجل.
إنَّ هذه الأيام العشر هي الأيام المعلومات المخصوصة بالتفضيل في محكم الآيات، في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ {1} وَلَيَالٍ عَشْرٍ {2}) (الفجر)؛ إذ أقسم الرب جلّ جلاله بها لشرفها.
ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله، من هذه الأيام”، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: “ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء” (رواه البخاري).
إنَّ هذا العمل الصالح الذي يحب الله تعالى الإكثار منه في هذه الأيام خاصة، يتضمن الصلاة والصيام والصدقة بالمال وسائر أفعال البر والإحسان.
بالنسبة للصلاة، فيستحب الإكثار من السنن والنوافل، ففي الحديث: “ما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها”، كما ورد عن رسولنا صلى الله عليه وسلم قوله: “مَنْ صلى اثنتي عشرة ركعة بنى له الله في الجنة غرفة”.
وبالنسبة للصيام، ففي هذه الأيام كان بعض السلف يصومون عشر ذي الحجة كلها، وبعضهم يصومون بعضها؛ لأنَّ هذه الأيام أفضل أيام الدنيا من أجل أنَّ فيها يوم عرفة الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: “أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”، ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن صوم عرفة، فقال: “يكفِّر السنة الماضية والباقية” (رواه مسلم).
أما بالنسبة للصدقة، فلها شأنٌ كبير وأجر كثير؛ لكونها في هذه الأيام تصادف من الفقير، له ولعياله في يوم العيد موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه الفقير من حاجة النفقة والكسوة وسائر المؤنة الضرورية.
ومما يستحب في هذه الأيام الفاضلة الجهر بالتكبير في عشر ذي الحجة في المساجد وفي الأسواق والطرق، جهراً لا يؤذي أحداً، ففي صحيح البخاري أنّ ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، حتى إنَّ للسوق ضجة بالتكبير: “الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد”.
وبالنسبة للأضحية فإنها سُنة ثابتة بالكتاب والسُّنة، يقول سبحانه: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ {2}) (الكوثر).
ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية يقول: ” أيام عشر ذي الحجة ولياليها أيام شريفة ومفضلة، يضاعف الشغل فيها، ويستحب فيها الاجتهاد في العبادة، وازدياد عمل الخير والبر بشتى أشكاله، نرجو المزيد من التفاصيل؟” وبعد عرضه أتت الإجابة كالتالي:
صرح تعالى : {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.. [الفجر: 1-2]، وقد ذهب عديد من المفسرين حتّى تلك الليالي هي العشر من ذي الحجة، والتي يرتبط بها الكثير من القرارات والآداب والفضائل، ومنها:
أولًا: فضل العشر الأُوَل من ذي الحجة:
أيام عشر ذي الحجة ولياليها أيام شريفة ومفضلة، يضاعف الشغل فيها، ويستحب فيها الاجتهاد في العبادة، وصعود عمل الخير والبر بشتى أشكاله، فالعمل الصالح في تلك الأيام أفضل من الشغل الصالح فيما سواها من بقية أيام السنة، فقد روى ابن عباس رضي الله سبحانه وتعالى عنهما أفاد: أفاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».. أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما.
ثانيًا: حكم صوم الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة:
يستحب صوم الأيام الثمانية الأولى من ذي الحجة ليس لأن صومها سنة، ولكن لاستحباب الشغل الصالح بصفة عامة في تلك الأيام، والصوم من الإجراءات الصالحة، وإن كان لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيام تلك الأيام بشأنها، ولا الحث على الصوم بشأنه في تلك الأيام، وإنما هو من جملة الشغل الصالح الذي تحميس النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعله في تلك الأيام كما مر في عصري ابن عباس.
ثالثًا: حكم صيام يوم يوم عرفة:
صيام يوم عرفات سُنة فعلية فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقولية تشجيع عليها في كلامه السليم المرفوع؛ فقد روى أبو قتادة رضي الله سبحانه وتعالى تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفاد: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».. أخرجه مسلم، فيسن صيام يوم يوم عرفة لغير الحاج، وهو: اليوم التاسع من ذي الحجة، وصومه يكفر سنتين: سنة ماضية، وسنة مستقبلة كما ورد بالحديث.
رابعًا: حكم صوم يوم العاشر:
يحرم باتفاقٍ صوم يوم العاشر من ذي الحجة؛ لأنه يوم عيد الأضحى، فيحرم صيام يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وأيام التشريق، وهي ثلاثة أيام في أعقاب يوم النحر؛ وهذا لأن تلك الأيام حظر صومها؛ لحديث والدي سعيد رضي الله سبحانه وتعالى عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ؛ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ” رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
وجديد نبيشة الهذلي رضي الله سبحانه وتعالى تعالى عنه أفاد: أفاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ».. أخرجه مسلم في “صحيحه”.
خامسًا: ومن الآداب في عشر ذي الحجة لمن يعزم على الأضحية:
ألا يمس شعره ولا بشره؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا».. أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه” عن أم سلمة رضي الله سبحانه وتعالى عنها.
والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر:
النهي عن إزاحة الظفر بقَلْم أو كَسْر أو غيره، والمنع من إزاحة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق، أو أخذه بنورة أو غير هذا، وسواء شعر الإبط والشارب والعانة والرأس وغير هذا من إحساس بدنه، والنهي عن هذا كله محمول على كراهة التنزيه وليس بحرام.
والحكمة في النهي:
أن يوجد كامل الأجزاء ليعتق من النار، والتشبه بالمحرم في شيء من آدابه، وإلا فإن المضحي لا يعتزل السيدات ولا يترك الطيب واللباس وغير هذا الأمر الذي يتركه المحرم.
فتبين لنا الأمر الذي في مرة سابقة فضل الشغل الصالح في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة، واستحباب صوم الأيام الثمانية الأولى؛ لأن الصيام من جملة الشغل الصالح، وسنية صيام يوم يوم عرفة، وحرمة صيام يوم العاشر، وهو يوم العيد.
ويتضح لنا عدم دقة عبارة صوم العشر من ذي الحجة؛ لاشتمالها على ما يحرم صومه وهو يوم العيد.
أخي الحبيب
في تلك الأيام تحن قلوب عديد من المؤمنين إلى منزل الله الحرام، ومن رحمته أن جعل موسم العشر الأوائل من ذي الحجة مشتركاً بين الحجاج وغيرهم ممن حبسه العذر، فـ(من لم يبلغ إلى المنزل لأنه منه بعيد فليقصد رب المنزل فإنه أكثر قربا إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد ومن فاته في ذلك العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه) 1.
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
أقسم الله عز وجل في كتابه لشرفها وعظمها أفاد تعالى: والفجر وليال عشر أفاد ابن عديد رحمه الله: (المُراد بها عشر ذي الحجة) كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم وصرح تعالى ويذكروا اسم الله في أيام بيانات أفاد ابن عباس: (أيام العشر) وهى جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر. وفي البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح: “”ما من أيام الشغل الصالح فيها أحب إلى الله من تلك الأيام” (يقصد العشر)، أفادوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في طريق الله؟ صرح صلى الله عليه وسلم: “ولا الجهاد في طريق الله، سوى رجل خرج بنفسه وماله فلم يعود من هذا بشيء””. وقد دل الجديد على أن الشغل في تلك الأيام العشر أحب إلى الله من الشغل في أيام الدنيا كلها من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده. أفاد الحافظ بن حجر في الفتح: (والذي يتضح أن الداعِي في امتياز العشر من ذي الحجة لموضع مؤتمر أمهات العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتي هذا في غيره). وفيها يوم عرفات الذي أقسم الله عز وجل به في كتابه فقال: والشفع والوتر فهو الشفع وهو الشاهد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الشاهد يوم يوم عرفة والمشهود الجمعة” 2، وهو أفضل الأيام ففي الجديد: “أفضل الأيام يوم يوم عرفة” 3، وهو يوم مغفرة المعاصي والتجاوز عنها والعتق من النار والمُباهاة بأهل الموقف؛ ففي الجديد: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يباهى ملائكته فيقول ما أراد هؤلاء” 4. ففي الجديد “صوم يوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والتي بعده” 5.
كيف نستقبل ذلك الموسم الكبير؟
– بالتوبة الصادقة النصوح وبالإقلاع عن المعاصي والذنوب؛ فإن المعاصي هي التي تحرم الإنسان فضل ربه وتحجب قلبه عن مولاه.
– ايضاً تُستقبل مواسم الخيرات بالعزم الصادق الجادّ على اغتنامها بما يُرضي الله سبحانه وتعالى؛ فمن صدق الله صدقه الله، ونية المؤمن خير من عمله.
– من نوى الأضحية فعليه ألا يأخذ شيئاً من أشعاره وأظفاره منذ أول يوم في شهر ذي الحجة؛ ففي الجديد “إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يُضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يُضحّى” 6.
ما يستحب من الإجراءات في تلك الأيام
يلزم المحافظة عليها في جماعة والتبكير إليها والإكثار من النوافل وقيام الليل؛ فإن هذا من أفضل القربات؛ ففي الجديد: “عليك بكثرة السجود؛ فإنك لن تسجد لله سجدة سوى رفعك الله بها درجة وحط عنك خطيئة” 7.
الصوم
لدخوله في الممارسات الصالحة؛ ففي المسند والسنن عن حفصة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “كان لا يدع صوم يوم عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من شهرياً”. وفي سنن والدي داود عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم “كان لا يدع صوم تسع ذي الحجة ويوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من شهرياً”، وقد كان عبد الله بن عمر يصومها، صرح الإمام النووي عن صيام أيام العشر أنه حكمه مستحب استحباباً صارماً.
القيام
مُستحب وقد كان سعيد بن جبير إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، ورُوي عنه أنه أفاد: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) تعجبه العبادة.
الإكثار من الذكر والدعاء
ففي مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد: “ما من أيام أعظم نحو الله ولا أحب إليه الشغل فيهن من تلك الأيام فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”.
عن ابي هريرة وافق اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم صرح: “لَيْسَ شَيْءٌ أكْرَمَ على اللَّهِ تَعالى مِنَ الدُّعاء” 8.
سرور تدخله على مسلم
فعن جعفر بن يزيد، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله سبحانه وتعالى عنهم صرح: أفاد عليه الصلاة والسلام: “ما أدخل رجلٌ على مؤمنٍ سروراً سوى خَلَقَ الله عزَّ وجل من هذا الفرح والسعادة ملكاً يعبد الله عزَّ وجل ويوحِّده، فإذا صار العبد في قبره، أتاه هذا الفرح والسعادة فيقول: أما تعرفني؟! فيقول له: مَن أنت؟ يقول: أنا الفرح والسعادة الذي أدخلتني على فلان، أنا اليوم أونس وحشتك، وألَقِّنك حجتك، وأثبتك بالقول الثابت، وأشهدك مشاهدك الآخرة، وأشفع لك إلى ربك، وأريك منزلتك في الجنة”.
فضل الأضحية وثوابها
“ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي الآخرة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بموضع قبل أن يحدث على الأرض، فطيبوا بها نفساً” 9.
وفي الجديد “سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأضاحي: فقال: “سنة أبيكم إبراهيم”، صرحوا: “ما لنا منها؟” صرح صلى الله عليه وسلم: “بكل شعرة حسنة”. أفادوا: “فالصوف؟”، أفاد صلى الله عليه وسلم: “بكل شعرة من الصوف حسنة”” 10.
فالبدار البدار أخي الحبيب،
أيام مباركة فيها من المنح المولوي الكريم لعباده المؤمنين، إمكانية لتنسم عبق الأنس الرباني وتذوق حلاوة القرب منه سبحانه، أيام مقرونة بشعيرة شعيرة الحج لنشارك ضيوف الرحمن وهم على عتبات الكعبة والبلد الحرام معاني التوبة والبكاء على الله والدعاء، فبشرى لعبد تذكر واعتبر وتفكر واتعظ وأيقظ مشاعره فاغتنم وأتى بكلياته على مناشدة مولاه.
اللهم أنهض هممنا إليك لطلب ما عندك، وحقق رجاءنا بقربك، ولا تجعلنا من المحرومين.
آمـين.
يحتفل الدروز كل سنة, بعيد الأضحى المبارك, وتسبق الإحتفالات, سهرات ليالي العشر المباركة, التي أصبحت تقليدا سنويا متبعا, وسُنّة توحيدية معروفة, ومنهجا دينيا متفقا عليه, في أوساط الدروز في كل مكان. وهذه الليالي, هي متعة روحية ودينية فائقة, بالنسبة لرجال الدين, الذين يقومون بواجباتهم الدينية, خلال كافة أيام السنة, فهم ينتظرونها بفارغ الصبر, طوال أيام العام, لأنهم يشعرون خلال وجودها, نوعاً من التسامي والتعالي, والشعور بالتألق الروحاني, وبالنشوة الدينية, وبالمتعة الفكرية, حيث تنفتح أمامهم, خلال هذه الأيام, أبواب السماء, وينظرون بأفكارهم, الى ما وراء هذا الكون, والى ما يوجد خلف الحُجب, والى عوالم جديدة مثيرة, موجودة في عالمنا هذا, لكننا لا نشعر بها, خلال حياتنا العادية.
في هذه الليالي, تُتلى النصوص المذهبية, وتُنشد الأشعار الروحانية, وتُسمع المواعظ الاجتماعية, وهذا يتم عادة, في كافة الاجتماعات الدينية المتّبعة لدى أبناء التوحيد. لكن الخاص في ليالي العشر, هو ان ذلك يكون مركَّزاً خلال ايام متتالية, وبانتظار عيد الاضحى المبارك. وهناك الكثيرون من الدروز المتدينين, الذين لا تسمح لهم اعمالهم وأشغالهم, بأن يقصدوا الخلوات في المواعيد المحددة دائماً, ولكن في ايام العشر, يحاولون بقدر الإمكان, حضور جميع السهرات, والإستمتاع بكافة الاجتماعات, لأن في ذلك فرصة لا تُعوَّض إلا بعد سنة. وهذا التركيز, وهذا التجمع, يخلق جواً فريداً من نوعه عند رجال الدين, بحيث يفتح القلوب, وينقّي الأذهان, ويروِّض الاجسام, ويدفع الانسان الى التطلع الى آفاق جديدة, وأطر حديثة, لم يعهدها من قبل, وفيها أفكار وحيوات وعناصر لم يألفها, حيث ان الانسان في حياته اليومية, يعيش من لحظة الى لحظة, ياكل ويشرب, ويبني نفسه وينتبه فقط الى مسافة قريبة أمامه.
وفي هذه الأيام, يُفسح المجال امام الانسان المتدين, الذي يحضر كافة السهرات الدينية, ان يتعمّق بمذهب التوحيد, وأن يكتشف فيه خلايا جديدة, وأن يتبحّر بكنوزه ومعادنه, وأن يصقل معلوماته ومداركه, وهذا بحد ذاته, امر كبير, لأن كل دين التوحيد مبني على النشوة الروحية, وليس على المكاسب المادية, فهذا المذهب, الذي يعتمد على الفكر والعقل والكلمة, هذا المذهب هو الذي يدفع المؤمن الى فيض من الافكار والمعلومات والتطلعات, مجرداً من المواد المحسوسة, ومترفعاً عن الشهوات الجسمانية العادية, وبعيداً عن كل الملذات الحياتية الرخيصة, فالمؤمن الذي يتّبع مذهب التوحيد, عندما يتركز في روحانيات المذهب, ينظر الى مباهج الحياة بازدراء, ويشعر الى اي مدى يقتل الانسان اخاه الانسان, من اجل منصب, او مركز, او مادة, او غنى,او نفوذ, وهو يتطلع بسخط, على اولئك الذين يتدافعون وراء المادة, ويتهافتون على السلطة والنفوذ, وعلى اولئك الذين يتقاتلون ويتصارعون, من اجل اشياء زائلة لا قيمة لها احياناً.
إن المتدين الذي يحضر هذه السهرات, ويستوعب كل ما يسمع فيها, يصل الى عيد الاضحى المبارك, مهياً تهيئة روحانية, لتقبل ايام العيد الكبير, بالحلة الفكرية المناسبة, خاصة اذا حاول في هذه الايام, بقدر الامكان, ان يترفّع عن الشؤون الدنيوية الرخيصة, التي يزاولها كل يوم. وهناك عدد من المشايخ الاتقياء, يقومون بمزاولة الصيام المستمر, خلال هذه الايام العشرة المباركة, وإذا صاموا طبعا عن الأكل, فإنهم يصومون عن كل العادات الحياتية اليومية الاخرى, التي يزاولونها في الايام العادية, وهذه فضيلة محبذة, يتسم بها الاتقياء من رجال الدين, سنة بعد سنة, وتُكسبهم الشعور بأنهم يؤدون واجباتهم الروحانية على اكمل وجه.
وليالي العشر, والسهرا ت الدينية, مفتوحة أمام كافة ابناء الطائفة, بحيث يستطيع كل فرد, ان يضع غطاء على رأسه فقط, وأن يدخل الخلوة, ويحضر القسم الاول من السهرة, وهناك عشرات الشباب, الذين يدأبون كل سنة, على حضور سهرات ليالي العشر المباركة, وهم يقولون انهم يشعرون بنشوة كبيرة فيها, وكـأنهم يتزوَّدون بقوت روحاني كبير لباقي ايام السنة. وحبذا لو حاول كل فرد منا, ذكراً أم أنثى, ان يفكر خلال ايام العشر, ان يتوجه الى احدى الخلوات القريبة منه, وأن يحضر السهرة, وأن يجتمع برجال الدين, وان يشاهد مجلسهم, ويسمع حديثهم, ويرى بأم عينيه, ما يجري في مجالسهم, فهو بذلك يحظى بفائدة كبيرة, وبمكسب شخصي, وإذا حاول كل فرد منا, ان يعمل شيئا ما لنفسه ولطائفته ولمجتمعه, فإن المحصِّلة الجماعية, تكون بأن يقوى المجتمع باسره, وأن تُثبَّت اركان الطائفة كلها, وأن يتوجه ضمير الانسان الى الخير والمحبة والتآخي والتفاهم. وكل انسان منا يصلِّح ما بنفسه, فإننا جميعاً, نصل بمجتمعنا كله الى الخير والإصلاح.
ساعات عمل اقل في ليالي العشر
توصلت الرئاسة الروحية والمجلس الديني, في السنة الأخيرة, إلى إنجاز كبير, يتعلق بليالي العشر المباركة, وهو عقد اتفاق مع الدولة, يتم بموجبه, منح كافة الموظفين الدروز, في جهاز الدولة, من معلمين وشرطة وموظفين, ساعتين كل يوم من الدوام, بحيث يتمكن كل موظف, من ترك العمل قبل ساعتين من الموعد المحدد, لكي يستطيع الوصول إلى بيته, وحضور سهرات ليالي العشر المباركة, وسيبدأ العمل بهذا الإتفاق إبتداء من هذه السنة.