
اهمية معرفة غزوة أحد !!!
صرحت سورة آل عمران في آيات كثيرة (121 ــ 179) عن غزوة واحد من وما حف بها من أمور قبلها وبعدها، وقد وضعت السورة ما حدث للمسلمين في واحد من في محيط تاريخي ليصبح درساً للمسلمين في جميع زمان ومكان، ولذلك أتى في تلك السورة ومن أثناء الجديد عن أُحاجز {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} ونقرأ فيها قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
إن مضاهاة الأحداث واستخلاص التجارب والاستفادة من الزمن الفائت هو دأب العلماء ودأب الأبرار أولي الألباب أفاد ابن تيمية وهو يقارن بين واقعة التتار في الانقضاض على دمشق السورية وما حصل في معركة الخندق: “فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الشعوب وعاداتهم، لا سيما في مثل تلك النكبة الكبيرة التي طبق الخافقين ذكرها، واستطار في كل ديار الإسلام شررها، وكشّر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد عمود الكتاب أن يُجتثّ ويخترم، وعقر دار المؤمنين (الشام) أن يحل بها البوار….”.
الهزيمة عقب النصر(1):
لم يكن هناك تكافؤ في الرقم بين قوات مسلحة المسلمين وجيش قريش، فعدد قوات مسلحة المسلمين نحو السبعمائة، وجيش الكفار ثلاثة آلاف، ولكن تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم المحكمة عوضت ذلك الندرة بأن يكون على جبل الرماة خمسون يحمون المسلمين من التفاف خيل الكفار. وأسند ظهره مع باقي القوات المسلحة إلى جبل واحد من وقد كان النصر حاسماً في مستهل الموقعة {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} الأمر الذي نتج عنه انكماش قريش وبداية هزيمتهم. وهنا حدث شيء مفاجئ حوّل مجرى الموقعة، إذ نزل أكثر الرماة من الجبل يرغبون في الغنائم بعدما لاح النصر وبدأ فرار قوات مسلحة المشركين، واستطاع خالد بن المولود زعيم فرسان قريش الالتفاف والقضاء على باقي الرماة، وعاد المنهزمون من المشركين للقتال، ووقع المسلمون في الحصار، وقد كان تركيز قريش على النبي صلى الله عليه وسلم فقام نفر من المسلمين الأبطال بحمايته بأنفسهم وأبدوا من البطولات الخارقة ما تكسرت في مواجهتها هجمات المشركين(2).
تلك الصمود الشرسة من الصحابة الكرام قلصت من خسائر المسلمين، وأشعرت قريشاً أن القضاء على المسلمين ليس أمراً هيناً، بل أصابت تلك الصمود الرهبة في نفوس المشركين، فلم يفكروا في الإغارة على المدينة في أعقاب اختتام الموقعة.
إنتقاد وتربية:
في أعقاب الخطأ والتنازع الذي حدث فيه الرماة، وما جرَّ هذا من التفاف خيل المشركين، بدأت جولة ثانية من الموقعة، وأصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وشُجَّ رأسه وكسرت رباعيته، في أعقاب تلك الجولة تحدّث القرآن وصارح المسلمين بخلجات نفوسهم، وعرض ما كان فيها من صراع نفسي واضطراب بين نوازع الاستقرار أو التنازل، عرض هذا دون أن يخفي شيئاً صرحت به نفوسهم، وهذا لأنها نفوس إنسانية تصطرع فيها نوازع الشدة والضعف، عرض صورة من الإرتباك قبل الموقعة {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تغلّب الإيمان والثبات وعزموا على المضي مع النبي صلى الله عليه وسلم، والسر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، وأما الذي وقع خلال الموقعة فهو كما أفاد تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} إن عصيان الرماة واتجاههم صوب الغنائم {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} حوّل مجرى الموقعة، والقرآن الكريم يذكر ثلاث صفات تكفي إحداها للهزيمة: الفشل والتنازع والعصيان، وهناك طائفة أخرى هربو عقب الصدمة المفاجئة، ولكنهم ندموا ورجعوا والله سبحانه يعاتبهم على تصرفهم ذلك {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}..
أصابهم غم الهزيمة وغم الإشاعة أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، وغم الجراح التي أصابتهم، فهو غم متواصل وليس غماً واحداً ولا غمّين اثنين خاصة وهناك طائفة اختُلف في أمرها، هل هم من ضعاف الإيمان أو من المنافقين، وهذا نتيجة لـ ظنونهم الجاهلية {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}(3).
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره: “وتلك الطائفة من المؤمنين الضعفاء ولا احتياج إلى جعلها في المنافقين كما قيل، وقولهم ذلك يفيد أن ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فهل نُلام إن ولّينا وغلبنا، وكأنهم عجبوا الأمر الذي حدث في واحد من، وكأنه منافٍ لحقيقة الدين” والذين تحدثوا: هي في المنافقين لأنهم ظنوا في الله ظن مشركي الجاهلية، وأن ظهور المشركين في واحد من دليل على بطلان مناشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يخفون في أنفسهم ذلك الشيء ولا يبدونه.
أفاد ابن القيم: “إن ظنهم الباطل ها هنا هو التكذيب بالقدر، وأنه إذا كان الشأن إليهم وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعاً لهم لما أصابهم القتل”.
عتاب رقيق:
عقب تلك المصارحة والمكاشفة لما في النفوس حتى تبرأ الأمر الذي فيها أتى العتاب في سورة آل عمران رقيقاً فلم يعنّفوا تعنيفاً قاسياً على خطئهم وعصيانهم لأوامر قائدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل أزال عنهم آثار الجراحات وما أصابهم من الغم، وآنسهم بأنهم هم الأعلون {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.
فهذا كلام لهم لتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وتحدث لهم أن هناك حكمة أخرى الأمر الذي وقع وهي أن يمتاز المؤمنون من المنافقين وتحدث سبحانه مخاطباً رسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وذلك من أحسن التربية لأنه لو أكد عليهم مبالغة عما هم فيه من الأوجاع، فلربما وهن العزم منهم، صرح ابن منحة في تفسيره: “ومن كرم الخلق ألّا يهن الإنسان في حربه وخصامه ولا يلين لو كان محقاً ولا يضرع ولو وافته المنية وإنما يحسن اللين في السلم والرضا”(4).
السنن الربانية:
من أعظم الدروس المستفادة من أُحاجز ذلك التوجيه إلى السنن التي وضعها الله سبحانه في الكون، وليقول للمسلمين الذين استغربوا ما حصل، وكيف يُدال للشرك على الإسلام {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي أن أمر النصر أو الهزيمة وأمر العز والذل والقوة والضعف والغنى والفقر، كل ذلك يجري على سنن ربانية، فليس الشأن جزافاً ولا عدد من المصادفات، ولو كان الشأن أيضاً لما أمكن أن يستفيد الإنسان من تجربة، والعلم بسنن الله من أفضَل العلوم التي يلزم أن تتوجه إليها الأنظار، أفاد تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ذلك معرفة يمكنه الإنسان الوصول إليه ما اتخذ إلى هذا سبيلا، ووراء العلم هدىً وموعظة ولذلك لم يشفع للصحابة في أُحاجز والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وأنهم على حق، لم يشفع لهم أن ينتصروا إذا قصّروا أو لم يتخذوا العوامل المؤدية لهذا.
ليس مجرد الإيمان يستتبع النصر ولا مجرد عدالة القضية وإنما الجمع بين قوة العقيدة وقوة التنظيم وقوة التسليح ولمثل هؤلاء أفاد تعالى: {فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ}.
قوانين النصر:
كان التوجيه عن طريق موقعة أُحاجز أن فقد القيادة لا يقصد التقهقر والانكسار، حتى لو كانت تلك القيادة هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}.
وتعقيباً على واحد من، صرح تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
ينفي الله تعالى عن هؤلاء الربيون ثلاث صفات: ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، والوهن يكون في الفؤاد، وفي الإيمان، والضعف يكون في الجوارح، إستيعاب يجاهدون دون تدهور، والاستكانة تكون للعدو وهي الذلة والخضوع له وبعد أن نفى عنهم تلك السلبيات، تأتي الآية الآتية لتحدد الطريق الذي سلكوه للوصول إلى ذلك المستوى الرفيع.
الخطوة الأولى: أنهم يدخلون الموقعة أطهاراً يطلبون المغفرة من الله، ويدعون أن يثبت الله أقدامهم، ومن الإيمان المعترف به يجيء التثبيت والمواقف الصلبة، ثم يجيء النصر { وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }.
إن ما حدث في واحد من من جراح وآلام وأخطاء لا يفقد المسلمين حقهم في إبداء الرأي، ومع أن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في المكث في المدينة والمدافعة من داخلها كان هو الرأي السليم ولكنه صلى الله عليه وسلم أخذ بالشورى عندما وجد أن أغلب الشبان يرغبون في الذهاب للخارج إلى واحد من. وأتت الآية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
وكأنه سبحانه وتعالى يقول له: “دم على المشاورة كما فعلت قبل تلك الوقعة وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة، وشاورهم في الشأن العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم وغير هذا من مصالحهم الدنيوية”(5).
ومن الملاحظ أنه عن طريق الجديد عن القتال وآثار الموقعة صرحت الآيات عن (الربا): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وتحدثت عن الإنفاق {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. أي أن من عوامل الشدة المطلوبة التجهيز الحربي وذلك لا بد له من المال، ولا يصح جمع المالعن سبيل الربا كما تفعل قريش أو يفعل اليهود في المدينة، فالغاية لا تختلق أسباب الكيفية، ولا بد من قاعدة استثمارية قوية ولكن ليست بالأساليب الحرام.
عقب الحدث:
وكأن قريشاً ندمت على عدم استباحة المدينة في أعقاب الذي أحرزوه في أُحاجز، ولكنهم تذكروا الصمود الشرسة التي جوبهوا بها من المسلمين، ومع هذا فإن أبا سفيان زعيم قريش بعث من يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أجمعوا على العودة لاستئصال المسلمين.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
وفي اليوم الأتي لأحد أتت التعليمات من الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب للخارج إلى قريش ولا يطلع سوى من كان قد حضر أُحداً وبهذه الحركة تمَكّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم برفع من روح معنوية المسلمين وعسكروا في مقر اسمه (حمراء الأسد) وانتظروا قريشاً وعندما علمت قريش بذلك التحرك أصيبت بالرعب وآثروا السلامة واستمروا في سيرهم إلى مكة وكفى الله المؤمنين القتال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انسحب ثلثه بِحَثّ المنافق عبد الله بن والدي ابن سلول.
(2) نال الشهادة سبعون صحابياً رضي الله سبحانه وتعالى عنهم.
(3) انظر: ابن القيم، ارتفع المعاد 3 / 227
(4) المحرر الوجيز 3 / 335.
(5) رشيد رضا / توضيح المنار / سورة آل عمران.
من المراجع: دروس من غزوة أُحاجز للدكتور عبد العزيز كامل، فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي
دروس السيرة للدكتور محمد العبدة.
كنا قد تكلمنا عن الشهداء فماذا عن الذين فروا من أرض المعركة، وماذا عَمَّن وجد نفسه لم يدافع عن الإسلام، ولم يثبت بجوار رسول الله r؟
لقد نزل المنهج الرباني يعالج هذه المصيبة، ويخرج بأصحابه إلى العودة إلى السيادة من جديد. ومن ثَمَّ فنحن نحتاج إلى دراسة سورة آل عمران حتى نتعلم منها كيف عالج القرآن الكريم هزيمة أُحد رغم الهزيمة، ورغم المخالفات الشرعية، وارتكاب الكبائر مثل الفرار من أرض المعركة:
أولا: رفع الروح المعنوية للمسلم بلفت نظره إلى أماكن القوة فيه
يقول تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. كل إنسان بداخله جوانب إيجابية وجوانب سلبية، فعليه أن ينظر إلى الجوانب الإيجابية؛ فالقرآن الكريم يقول: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. لقد لفت النظر إلى القوة حتى يقوم من هذه الكبوة التي وقع فيها، فالمسلم لم يفقد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي هو أعظم ما يجعل المؤمن يقوم من كبوته مرة أخرى.
فعندما نرى دولة غير إسلامية قد سادت العالم فلا تجزع، فإن عند المسلمين من أدوات القيام الكثير والكثير، فهناك إمكانيات إستراتيجية ومادية وبشرية تكفي للقيام من جديد.
ثانيا: رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في المصيبة نفسها
فقد لفت القرآن الكريم نظر المسلمين إلى شؤم المعصية، وبيان خطورة المنافقين، وبيان عقوبة مخالفة النبي r، وخطورة الدنيا، وإلى انتقاء بعض المسلمين شهداء؛ فهذه جوانب إيجابية في هذا الحدث تطمئن النفس إليها في العودة مرة ثانية.
ثالثا: لا سبيل إلى تفادي ما قدر الله من مصائب
فلا داعي للإنسان أن يقول (لو) ويكثر من تكرارها؛ لأنها تفتح عمل الشيطان، وعلى الإنسان أن يعمل على عدم وقوع هذه المصائب، فهو يأخذ بالأسباب ولكن مع كل هذا فسوف تقع المصيبة، فالحذر لا يمنع القدر، ولكن إذا وقعت المصيبة فعلى الإنسان أن يعالج هذه المصيبة وَفْق المنهج الرباني، فلا يكسل ولا يفتر، ولكن يعمل لرفع المصيبة.
رابعا: الوعد بالقيام من جديد
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
فإن نصرنا الله فلنا السيادة والغلبة بشرط أن ننصر الله U، ونصر الله يكون بتطبيق شرع الله U، فهذه الآية فيها وعدٌ بالقيام من جديد.
خامسا: الاعتبار بالتاريخ
فما حدث لكم قد حدث للأمم السابقة لكم، فالقيام بعد السقوط حدث كثيرًا في السابق، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
فما حدث لكم قد حدث لمن قبلكم، والقيام بعد السقوط هو القاعدة التي ينطلق منها المسلم.
سادسا: المقارنة بين المسلمين وأعدائهم
يقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]. وقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
فقد قُتل من المشركين يوم أُحد اثنان وعشرون، وفي رواية أصح: سبعة وثلاثون. وهذا عدد كبير إذا نظرنا إلى معركة أُحد، وقد فقدوا قبل ذلك يوم بدر سبعين من كبار المشركين، وأساطين الضلالة.
سابعا: عدم ثبات الناس على حال
يقول تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
فمن سُنَّة الله في كونه تداول السلطة بين الأمم، وأمة الإسلام لا تخرج عن هذا القانون، فعندما نعلم ذلك لا نجزع وقت نزول الهزيمة بنا.
ثامنا: الأمل الدائم في مغفرة الله
المسلم يستطيع أن يبدأ بداية جديدة وبصفحة بيضاء دون خطايا أو ذنوب، مهما يكون ما فعل قبل ذلك، يقول تعالى في بداية الحديث عن غزوة أُحد: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
فهذه الآية تَعِدُ المسلمين بالمغفرة، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
وأما قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان. فقد ذَكَر العفو مباشرة بَعْدَ ذِكْر ما حدث من المسلمين يوم أُحد، فهذا تحفيز للمسلمين إلى البداية من جديد بصفحة بيضاء.
تاسعا: أن المسلم غير مطالب بالنتيجة
فالإنسان لا يحاسب يوم القيامة على النتائج وإنما يحاسب على الأعمال، يقول تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].
فهؤلاء المشركون مآلهم جهنم وبئس المصير، ربما ينتصرون في معركة أو معركتين، ولكن مصيرهم جهنم يَصْلَونها بما قدمت أيديهم.
أما بالنسبة للمسلمين يقول تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]. فالثواب الحق هو ثواب الآخرة.
وأخيرا: التحذير من الركون إلى الراحة والقعود
فالمسلم يكون بين الخوف والرجاء، فكما أن هناك تبشيرًا فهناك التحذير من المعصية، وهناك العقاب من الله U إنْ خالف الإنسان أوامر الله ورسوله. وبهذا المنهج المتوازن بين الخوف والرجاء يسير المسلم في هذه الحياة.
بهذه الأمور عالج القرآن الكريم هذه المصيبة التي ألمت بهم، وأخذ بيدهم حتى يستعيدوا مكانتهم من جديد؛ فقد غفر ذنوبهم، ووعدهم النصرَ إنْ هم نصروه U.
حمراء الأسد
على الفور أخذ الرسول r قرار الخروج إلى حمراء الأسد، وهي تبعد عن المدينة بمقدار ثمانية أميال، وعلم الرسول r أن المشركين على بُعد ستة وثلاثين ميلاً. خرج الرسول في اليوم الثاني من الغزوة مباشرة رغم الآلام التي يعانون منها، ورفض أن يخرج معه إلا الذين قاتلوا بالأمس، وهذا قرار حكيم من الرسول r، فقد أراد أن يعيد الثقة إلى جيشه، فهو يقول لهم: أنا أثق بكم، وأثق في قدرتكم على القتال، وإن الذي حدث بالأمس إنما كان هفوة من رجال عظماء، وفي المواجهة القادمة سوف يلقنون المشركين درسًا لن ينسوه.
يقول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].
وفكر أبو سفيان في العودة إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين من المدينة المنورة فما زال الرسول حيًّا، وما زال أبو بكر وعمر على قيد الحياة، وهنا تتجلى عبقرية الرسول r، فهو – فعلاً – قد خرج إلى حمراء الأسد، ولكنه r يعلم مدى الضعف والمعاناة التي يمر بها جيش المدينة؛ ومن ثَمَّ لجأ إلى حيلة ذكية وهي أنه أرسل رجلاً يسمَّى مَعْبَد بن أبي معبد، حتى يخذِّل قريشًا، فذهب إلى قريش وقابل أبا سفيان، فلما رأى أبو سفيان معبدًا مقبلاً، قال: “ما وراءك يا معبد؟” قال: “محمد قد خرج في أصحابه في طلبكم في جمعٍ لم أرَ مثله قَطُّ، يتحرقون عليكم تحرُّقًا”. قال: “ويلك ما تقول؟! والله لقد أجمعنا الكرة على أصحابه لنستأصلهم”. قال: “فإني والله أنهاك عن ذلك بهم، والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل”[1].
وهنا خاف أبو سفيان وخافت قريش، وصدق قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104].
وأقام رسول الله r ثلاثة أيام في حمراء الأسد ينتظر قريشًا، فأصبح في مكان المنتصر والمنتظر لعدوه.
ومرَّ بأبي سفيان ركبٌ من عبد القيس، فقال: “أين تريدون؟”
قالوا: “نريد المدينة”.
قال: “ولمَ؟”
قالوا: “نريد الميرة”.
قال: “فأخبروا محمدًا أنا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنستأصله وأصحابه”.
ثم رحل أبو سفيان إلى مكة، ومر الركب برسول الله r فأخبروه بما قال أبو سفيان، فقال رسول الله r والمسلمون: “حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”. فأنزل الله جل وعلا في ذلك: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172- 175].
لقد خرج المسلمون من هزيمتهم النفسية وقهروا ما هم فيه، وتحولوا إلى أبطال شجعان، فقد كانت أُحد مصيبة عاجلة، وقد عالجها المنهج الرباني خير علاج، فهو منهجٌ ليس فيه عوج أو خطأ، إنه حقًّا {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42].
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28].
أيها المسلمون:
يعيشُ العالمُ اليوم أحداثًا كُبرى، وتحوُّلاتٍ تاريخيَّة هائلة، وآلامًا تضيقُ بها النفوسُ، تموجُ الأرضُ بالفتن والتحوُّلات في النُّظم وفي المُعتقَدات، في تسارُعٍ يدَعُ الحليمَ حيرانًا. فتنٌ كقطع الليل المُظلِم، ولا عاصِمَ اليوم من أمر الله إلا من رحِم. ونحن أمةُ دينٍ وأتباعُ رسالة، وفي أيدينا كتابٌ وسنةٌ.
ومعجزةُ القرآن الخالِدة: أنه نزل قبل أربعة عشر قرنًا، وخاضَ بهذه الأمة معركةً كُبرى حوَّلت تاريخَها وتاريخَ البشريَّة كلَّه معها، ومع ذلك فهو يُعايِشُ الحياة الحاضِرة وكأنَّما هو يتنزَّلُ اليوم لتوجيه المُسلمين في أحداثِهم الراهِنة، وفي صِراعهم مع الأحداث حولَهم.
أيها المسلمون:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 137، 138]. إن القرآن ليربِطُ حاضِر الأمة بماضِيها، فيرسُمُ بذلك مُستقبلَها.
عباد الله:
تلكم الآيات الماضِيات نزلَت في معركة أُحُد، والتي وقعَت في شهر شوال من السنة الثالثة من الهِجرة؛ وذلك أن المُشركين أرادوا الانتقام لهزيمتِهم في بدرٍ، فحشَدوا جيشَهم ثلاثة آلاف مُقاتلٍ على أطراف المدينة، واستشار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابَه، وكان يُريد التحصُّن في المدينة، لكنَّ كثيرين ألحُّوا على الخروج، فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – في سبعمائةٍ من أصحابه بعد أن قام رأسُ المُنافِقين بتخذيل الناس والرجوع بثُلُث الجيش، فنزل النبي – صلى الله عليه وسلم – بمن بقِيَ معه عند جبل أُحُد، وجعل الرُّماةَ على مُرتفعٍ وأمرَهم ألا يبرَحوا مواقِعَهم.
ودارَت رحا المعركة، وانتصَر المُسلمون في بادِئ الأمر، حتى فرَّ المُشرِكون وسقَط لواؤُهم، واستعجلَ بعضُ الرُّماة فنزَلوا من الجبل يظنُّون الأمرَ انتهى، ثم التفَّ المُشرِكون وكرُّوا على المُسلمين من خلفِهم، فقتلُوا سبعين من خِيار الصحابة المؤمنين، وشجُّوا رأسَ النبي – صلى الله عليه وسلم – وكسَروا رباعيَّته، وأشاعُوا أنهم قتَلوا النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأوقعَ ذلك في قلوب المؤمنين حُزنًا عميقًا، وألمًا شديدًا، وهزيمةً وانكِسارًا.
ثم أشاعَ المُشرِكون أنهم سيقصِدون المدينةَ، فنادَى النبي – صلى الله عليه وسلم – الجرحَى والمُنهَكين المُصابِين، فاستجابُوا للنداء على ما بِهم من الجِراحات، ونفَروا لمُناجَذة العدو، وصدَقوا مع العدوِّ ولم يأبَهوا للمُخذِّلين.
وصدَرَت خلال ذلك مقالاتٌ وعبارات، ومواقِفُ وبُطولات، وانتِكاساتٌ وانكِسارات، ونزل في هذه الواقِعة قرآنٌ يُتلَى إلى يوم القيامة، ستون آيةً من سورة آل عمران ليست مجرد تأريخٍ لواقعةٍ مضَت وانتهَت، وإنما يعيشُ قارِئَها تلك الأحداث، ويرى المُسلمين ومن حولهم أعداؤُهم يتربَّصُون بهم، ويُبيِّتون لهم، ويُلقون بينهم بالفِرية والشُّبهة، ويتحاقَدون عليهم، ويجمَعون لهم، ويلقَونهم في الميدان، وينهزِمون أمامَهم، ثم يكِرُّون عليهم فيُوقِعون بهم. فما أشبهَ الليلة بالبارِحة.
أيها المؤمنون:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 140، 141]. إن تعاقُب الشدَّة والرخَاء تكشِفُ معادِن النفوس وطبائِع القلوب، ودرجة الهلَع فيها والصبر، ومدَى الثِّقَة فيها بالله أو القُنوط.
وإن من مصلَحة الأمة أن تُصابَ برجَّاتٍ عنيفةٍ تعزِلُ الخبَثَ عنها، وقد اقتضَت حكمةُ الله أن يقعَ هذا التمحيصُ في أُحُد، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179].
ومُداولةُ الأيام، وتعاقُبُ الشدَّة والرخاء محكٌّ لا يُخطِئُ، وميزانٌ لا يظلِم.
وفي معركة أُحُد انكشَفَت عورةُ المُنافِقين، وظهرَ أثرُهم كما هو في كل زمانٍ، يستغِلُّون أوقاتِ الضعفِ لبلبَلَة القلوب، وخلخلَة الصُّفوف، وإشاعة الخَوَر، مع إثارة الفتن والشُّبُهات لهَدم كِيان المُجتمع المُسلم، بدءًا بعقيدته وقِيَمه، حتى يستسلِم للأقوياء الغالِبين.
وكانت آثارُ المعركة تمحيصًا للنفوس، وتمييزًا للصفوف، وتحرُّرًا من تمييع القِيَم وتأرجُح المشاعِر؛ وذلك بتميُّز المُنافِقين ووضوحِ سِماتِهم.
ولئِن نجحَ ابنُ أُبيٍّ في التأثير على ثُلُث الناس حتى رجَعوا إلى المدينة وتخلَّوا عن نُصرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلقد صمَدَت صفوةٌ نقيَّةٌ، حمَلَت أعباءَ الدين، وأنفقَت وقاتَلَت، وصبَرَت وصابَرَت، رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23].
بجِهادِهم وتضحياتِهم حفِظَ الله مصيرَ الإسلام في أول الزمان، وبمثلِ بُطولتهم وثباتِهم وصبرِهم يحفظُ الله وجودَ الإسلام في آخر الزمان.
أيها المسلمون:
لقد كان الله – سبحانه وتعالى – قادرًا على أن ينصُر نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – ودينَه وأولياءَه منذ اللحظةِ الأولى، وأن يُهلِك أعداءَهم بلا كدٍّ من المؤمنين ولا عناءٍ، ولكنَّ الله تعالى أراد تربيةَ المُسلمين ليُبتلَوا، وليقُودوا البشريَّةَ قيادةً راشِدةً على ما تحمِلُه البشريةُ من شهواتٍ ونزَواتٍ وانحرافٍ.
وهذه القيادةُ تقتضِي صلابةً في الدين، وثباتًا على الحق، وصبرًا على الشدائد، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]. هذه سُنَّةُ الله؛ الابتلاءُ قبل التمكين.
عباد الله:
وقبل أن تمضِي الآياتُ في عرضِ المواقفِ في معركة أُحُد؛ يُذكِّرُ الله بالمعركة التي انتهَت بالنصر، وهي معركةُ بدرٍ الكُبرى، لتكون هذه أمام تلك مجالاً للمُوازَنة وتحمُّل أسباب النصر وأسباب الهَزيمة، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: 125].
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} إنه الصبرُ والتقوى بكل معانيها ومعالِمِها، وذلكم هو سرُّ النصر.
أيها المؤمنون:
وفي سُورة آل عمران وفي غمرة التوجيهات واللَّفَتات يُحذِّرُ الله من دسائِسِ أهل الكتاب، ولم يكن يُجاوِرُهم في المدينة إلا اليهودُ، ويُحذِّرُ الله من الرُّكون إلى الكافِرين أو طاعتِهم، ونصفُ السورة الأول يُصوِّرُ جانِبًا من جوانِبِ الصِّراع بين العقيدة الإسلامية والعقائِد المُنحرِفة، ويُحاجُّ أهلَ الكتاب ويُناظِرُهم، ويُحاوِرُهم ويردُّ شُبُهاتهم. وهو ليس جِدلاً نظريًّا فحسبُ؛ إنما هو جانِبٌ من المعركة الكبيرة الشامِلة بين المُسلمين وأعدائِهم الذين يتربَّصُون بهم، ويتحفَّزون من حولهم، ويستخدِمون في حربِهم كلَّ الأسلِحة وكلَّ الدسائِس والوسائل، وفي أولِها: زعزعةُ العقيدة، وهي ذاتُها المعركةُ التي ما تزالُ ناشِبةً إلى هذه اللحظة بين المُسلمين وأعدائِهم.
وفي ثنايا الآيات يُحذِّرُ اللهُ من الرِّبا ويأمُرُ بالتقوى والمُسارَعة إلى الجنة، وتطهير النفوس وتقوية القلوب، والسيطرة على الأهواء والشَّهوات، ويحُثُّ على الصدقة والعفو، وإشاعة الوُدِّ والتسامُح والإحسان، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134].
فالنفسُ لا تنتصِرُ في الحروبِ إلا حين تنتصِرُ في القِيَم والمبادِئ، والذين تولَّوا يوم التقَى الجمعَانِ في أُحُد إنما استزلَّهم الشيطانُ ببعضِ ما كسَبُوا من الذنوب، والذين انتصَروا في معارِك العقيدة وراء أنبيائِهم هم الذين بدؤُوا المعركةَ بالاستِغفار من الذنوب، والالتِجاء إلى الله، والتطهُّر من المعاصِي.
ولعلَّ ما ترتَّبَ على عِصيان الرُّماةِ لأمر الرسول القائِدِ في معركة أُحُد درسٌ عميقٌ يتعلَّمُ منه المُسلمون في كلِّ مواجهةٍ قيمةَ الطاعة، وأن الجماعةَ التي لا يحكُمُها أمرٌ واحدٌ ويغلِبُ على أفرادِها وطوائِفِها النزاعاتُ الفردية لن تنجحَ في معركةٍ، ولن تُفلِحَ في مُواجهةٍ، ما لم تتَّفِق على رغبةٍ واحِدةٍ ووِجهةٍ واحِدةٍ، وما لم تُخمِدْ كلَّ شُذوذٍ يحصُلُ في صُفُوفِها.
ولما دُهِشَ المُسلِمون للكارِثة التي قلَبَت عليهم الأمورُ قال الله لهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
عباد الله:
إن المُؤمنين مهما أصابَهم في سبيلِ الله فإنهم لا يفقِدون صِلتَهم بربِّهم، وثِقَتَهم بوعدِه الصادقِ لجُندِه بأنهم هم الغالِبون، وأن لن يخذُلَهم؛ بل سوف ينصُرُهم ويُؤيِّدُهم ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِهم، ويُظهِرُهم عليهم.
ولقد تركَت معركةُ أُحُدٍ آثارًا غائِرةً في نفس النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ أُصيبَ في بدنِه إذ كُسِرَت سِنُّه، وجُرِحَ وجهُه، وشُجَّ رأسُه، فلم تزَل دماؤُه الزكِيَّةُ تسيلُ على وجهه الطاهِر حتى أُحرِقَت قطعةٌ من حصيرٍ فأُلصِقَت به، وأجهدَه العطشُ حتى جعلَ يقعُ على رُكبتَيْه، وأُصيبَ في أتباعِه؛ إذ أودعَ في سفْحِ الجبل سبعين رجلاً من أعزِّ الناس عليه وأقربِهم إلى قلبِه، وهو يقول: «أما واللهِ لوِددتُ أني غُودِرتُ مع أصحابِي بحِضن الجبل».
وأُصيبَ في أهلِه؛ حين أُخبِرَ بمقتل عمِّه حمزة، فوقفَ عليه وقد بُقِر بطنُه وجُدِعَ أنفُه ومُثِّلَ به، فكرِهَ أن ينظُرَ إليه وقال: «ما وقفتُ قطُّ موقِفًا أغيَ إليَّ من هذا».
بَيْدَ أن التسليمَ لله لم يلبَثْ أن مسحَ الأحزانَ العارِضة، وعادَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يتفقَّدُ أصحابَه، ويُخفِّفُ ما نزلَ بهم، ويسكُبُ من إيمانِه على نفوسِهم ما يملؤها عزاءً ورِضًا عن الله، واستِكانةً لقضائِه.
عن رِفاعة الزُّرقيِّ – رضي الله عنه – قال: لما كان يومُ أُحُد وانكفَأ المُشرِكون، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأصحابِه: «استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربِّي»، فصارُوا خلفَه صُفُوفًا، فقال: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابِضَ لما بَسَطتَّ، ولا باسِطَ لما قبضتَ، ولا هادِيَ لما أضلَلتَ، ولما مُضِلَّ لمن هدَيتَ، ولا مُعطِيَ لما منَعتَ، ولا مانِعَ لما أعطَيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعَدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ، اللهم ابسُط علينا من بركاتك ورحمتِك، وفضلِك ورِزقِك، اللهم إني أسألُك النعيمَ المُقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ، اللهم إني أسألُك النعيمَ يوم العَيْلة، والأمنَ يوم الخوف، اللهم إني عائِذٌ بك من شرِّ ما أعطيتَنا وشرِّ ما منَعتَ، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكُفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعَلنا من الراشِدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين، غير خزايا ولا مفتُونين. اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويصُدُّون عن سبيلِك، واجعَل عليهم رِجزَك وعذابَك، اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين أُوتُوا الكِتاب، إلهَ الحقِّ»؛ أخرجه الإمام أحمد وغيرُه.
عباد الله:
لقد ترفَّقَ القرآنُ الكريمُ في خِطابِ المُؤمنين بعد ما أصابَهم في أُحُدٍ؛ لكي لا يتحوَّل انكِسارُهم في الميدان إلى قُنوطٍ يفُلُّ قُواهم، وحسرةٍ تشُلُّ إنتاجَهم، قال الله – عز وجل -: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 139، 140].
فجمعَ – سبحانه – في خِطابِه لهم بين تشجيعِهم وتقويةِ نُفوسِهم، وإحياءِ عزائِمِهم وهِمَمهم، وبين حُسن التعزِيَة وذِكر الحِكَم الباهِرَة التي اقتَضَت إدالَةَ الكفار عليهم، وعزَّى اللهُ نبيَّه وأولياءَه عمَّن قُتِلَ منهم في سبيلِه أحسنَ تعزِيةٍ وألطَفَها، وأدعاها إلى الرِّضا بما قضاهُ لهم، وأخبرَهم بما نالُوه من ثوابِه وكرامَته؛ ليُنافِسُوهم فيه، ولا يحزَنوا عليهم، وأعلَمَهم أن سببَ المُصيبةِ من عند أنفُسِهم ليحذَروا، وأنها بقضائِه وقدَرِه ليُوحِّدُوا ويتَّكِلوا، ولا يخافُوا غيرَه، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدرًا وأعظمُ خطَرًا مما فاتَهم من النصر والغنيمةِ.
فلقد كانت حصيلةُ معركة أُحُدٍ ومن بعدها التوجيهات القُرآنية بعد الأحداث أكبرَ من حصيلةِ النصر والغَنيمة، ولقد علِمَ المُؤمنون أن الهزيمةَ حين تقَع؛ فإنها جارِيةٌ على سُنَّة الله وفقَ ما يقعُ من تقصيرٍ وتفريطٍ، وأنها تُحقِّقُ غاياتٍ يُقدِّرُها الله بحِكمته وعلمِه لتمحيصِ النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلِيَة الحقائِق، وإقرار القِيَم، وإقامَة الموازين، وجلاء السُّنن للمُستبصِرين.
إن النصرَ لا يتوقَّفُ إلا على نُصرة ربِّ العالمين؛ فمن نصرَه اللهُ – عز وجل – فلا غالِبَ له من الناس، ولن يضُرَّه خُذلانُ الخاذِلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160]. وفي كل هذا دروسٌ وعِبَرٌ للمُسلمين هذا اليوم في كل أرضٍ وتحت كلِّ سماءٍ.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملِكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
لئن تكلَّف المُسلمون الأوائل عشراتٍ من الرِّجال وأشهرًا من الزمان، ليستعيدوا قوَّتَهم ويتفوَّقُوا في الوقائع اللاحِقة؛ فإن المُسلمين في هذا الزمان استنَزَفوا الملايين من أرواحِهم وعقودًا من أعمارهم، ولم يتغيَّر حالُهم، وكان الفارِقُ بينهم وبين سلَفِهم هو الفرقُ في تعلُّمهم الدروس واستِلهامِهم العِبَر.
لئِن كان المُسلِمون الأوائلُ بعد كل خسارةٍ يثُوبون لدينِهم، ويلجؤُون لربِّهم، ويُحِيطُون بنبيِّهم – صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المُسلمين اليوم يُذادُون عن دينهم، ويُقصَون عن شريعتِهم، ويُحالُ بينهم وبين وسائل النصر ومَدَده.
ولك أن تُجيلَ بصرَكَ في كثيرٍ من بلاد المُسلمين خلال القرن الماضي بعد استِعمارهم وذهاب شوكتِهم وحتى اليوم، لقد جرَّبُوا كلَّ طريقٍ، وطرَقُوا كلَّ بابٍ، وأخَذوا من العلوم العصريَّة، وحازُوا الأسلِحةَ والعتادَ، وسالَت تحت أيديهم كُنوزُ العالَم، ونبعُ وقوده. ومع ذلك أصبَحوا ولا يسيلُ من الدماء إلا دماؤُهم، ولا تُجتاحُ إلا أراضِيهم، ولا يُقهَرُ إلا رِجالُهم. بل حتى في بلادِهم تتحكَّمُ أقلِّيَّاتُ الطوائِف في مصائِرِهم.
يا أيها المسلمون:
لهيبُ الأحداث يسُوقُكم لدينِكم، وسِياطُ المقادِير تُلجِئُكم لخالِقِكم، وفجائِعُ الدهر تُنادِيكم: أن هلُمُّوا لما عزَّ به سلَفُكم، واستقوَى به أوائلُكم.
أيها المسلمون:
راجِعوا أنفُسَكم؛ ففي الفضاء إعلامٌ وقنواتٌ لا تنتمِي لماضٍ مُحافِظٍ، ولا تُبالِي بواقعٍ مُؤلمٍ، وفي الناس غفلةٌ، والجِراحاتُ في كل وادٍ تسيلُ.
كيف يكونُ السَّرَفُ والتَّرَفُ وفي المُسلمين أوجاعٌ، وبهم جِياعٌ؟! ألم ترَوا أن الأيام دُوَلٌ، والدهرُ قُلَّب؟!
ويا أهلَنا في الشام! لكُم الله، وما لكم غيرُ الله، لقد أسلمَكم العالَمُ ليقوَى بالله تعلُّقُكم، ودانَ الشَّرْقُ تحرُّرَكم ليقوَى دينُكم، ومنَعُوكم المَدَد لتُخلِصُوا في طلبِ المَدَد من الله، اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128].
لقد أسرفَ طاغيةُ الشام في الدمِ، وأظهرَ عداوتَه لبلده أكثرَ من أي عدوٍّ، وهو مقطوعُ السَّبَب بالله موصولُ السَّبَب بالمخذُولين من أهل الأرض، وما أظهرَه أخيرًا من استِعلاءٍ واستِقواءٍ وعدمِ مُبالاةٍ لما يحدُثُ في الشامِ لهِيَ صحوَةُ الموت، ولكأنَّ البِشاراتِ بنصر الله عمَّا قريبٍ في الشام ستعلُو، وشمسُ الخلاصِ تُشرِقُ، وتعودُ الطيورُ التي طالَت هِجرتُها، وسيفرحُ المُؤمنون بنصر الله. وإنما الشجاعةُ صبرُ ساعةٍ.
اللهم يا جبَّارُ يا مُنتقِم، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، والطُف بعبادِك المُستضعَفين من المظلومين، واشفِ صُدورَ قومٍ مُؤمنين.
إن على المُسلمين قبل كلِّ أحدٍ أن يُبادِروا لغوثِ إخوانِهم في سُوريا، وقد زادَ بلاؤُهم بالبردِ الشديدِ وقسوةِ الثُّلُوج، وجَرْفِ السُّيُول، كان الله في عونِهم.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم أسبِغ عليه لباسَ الصحةِ والعافِية، اللهم أسبِغ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وأتِمَّ عليه الشفاءَ، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.
اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أولاً: أسباب الغزوة:
كانت أسباب غزوة أحد متعددة منها: الديني، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي.
1- السبب الديني:
فقد أخبر المولى عز وجل أن المشركين ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، والسعي للقضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36].
قال الطبري: يصرفون أموالهم وينفقونها، ليمنعوا الناس عن الدخول في الإسلام([1]).
وقال ابن كثير: أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع الحق([2]).
وقال الشوكاني: والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك([3]).
من هذا يظهر أن أهم أسباب غزوة أحد هو السبب الديني الذي كان من أهداف قريش للصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق، ومنع الناس من الدخول في الإسلام، ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية([4]).
2- السبب الاجتماعي:
كان للهزيمة الكبيرة في بدر، وقتل السادة والأشراف من قريش وقع كبير من الخزي والعار الذي يحل بهم، وجعلهم يشعرون بالمذلة والهزيمة، ولذلك بذلوا قصارى جهدهم في غسل هذه الذلة والمهانة التي لصقت بهم، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فور عودتهم من بدر, قال ابن إسحاق: (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فُلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيرهم فأوقفها بدار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها ولا فرقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منها، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك([5]).
ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ لها فقال: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي، فأنت عتيق([6]).
3- السبب الاقتصادي:
كانت حركة السرايا التي تقوم بها الدولة الإسلامية قد أثرت على اقتصاد قريش وفرضت عليهم حصارًا اقتصاديًا قويًا، وكان الاقتصاد المكي قائمًا على رحلتي الشتاء والصيف، رحلة الشتاء إلى اليمن وتحمل إليها بضائع الشام ومحاصيلها، ورحلة الصيف إلى الشام تحمل إليها محاصيل اليمن وبضائعها، وقطع أحد جناحي هاتين الرحلتين ضرب للجناح الآخر، لأن تجارتهم إلى الشام قائمة على سلع اليمن، وتجارتهم إلى اليمن قائمة على سلع الشام([7]), قال تعالى: ( لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش].
ويشير إلى هذا قول صفوان بن أمية: (إن محمدًا وأصحابه قد عوزوا علينا متاجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، قد وادعهم([8]), ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في ديارنا هذه, ما لنا بها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى الحبشة)([9]).
4- السبب السياسي:
فقد أخذت سيادة قريش في الانهيار بعد غزوة بدر، وتزعزع مركزها بين القبائل بوصفها زعيمة لها، فلا بد من رد الاعتبار والحفاظ على زعامتها مهما كلفها الأمر من جهود ومال وتضحيات.
هذه أهم الأسباب التي جعلت قريش تبادر إلى المواجهة العسكرية ضد الدولة الإسلامية بالمدينة([10]).
ثانيًا: خروج قريش من مكة إلى المدينة:
استكملت قريش قواها في يوم السبت 7 من شوال من السنة 3 هـ([11]), وعبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل مصحبين معهم النساء والعبيد, ومن تبعها من القبائل العربية المجاورة، فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها([12]) ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة. وخرجوا بالظعن([13]), التماس الحفيظة لئلا يفروا، فأقبلوا حتى نزلوا ببطن السبخة من قناة، على شفير الوادي مما يلي المدينة([14]).
كانت التعبئة القرشية قد سبقتها حملة إعلامية ضخمة تولى كبرها أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وعمرو بن العاص، وهبيرة المخزومي، وابن الزَّبَعْرَى ، وبلغت النفقات الحربية لجيش قريش 50 ألف دينار ذهبًا([15]).
ثالثًا: الاستخبارات النبوية تتابع حركة العدو:
كان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير, حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء([16]).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان رضي الله عنه يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن مقامك في مكة خير)([17]).
كانت المعلومات التي قدمها العباس للرسول صلى الله عليه وسلم دقيقة فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك, فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير, وأوعبوا([18]) من السلاح)([19]).
فقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها:
1- معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة.
2- حجم الجيش وقدراته القتالية, وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة.
لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين بأهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة، ولذلك أرسل صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر بن الجموح إلى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَده ورجع, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت؟» قال: رأيت أي رسول الله عددًا، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعًا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال: «هل رأيت ظعنًا؟» قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار([20])… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردن أن يحرضن القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفًا, حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول» ([21]).
كما أرسل صلى الله عليه وسلم أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة يتنصتان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم([22]).
وبعد أن تأكد من المعلومات حرص صلى الله عليه وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي, خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره صلى الله عليه وسلم بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار في كيفية مواجهة الموقف، وكان صلى الله عليه وسلم قد أطلع سيد الأنصار سعد بن الربيع على خبر رسالة العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرًا، فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند سعد، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أم لك, أنت وذاك، فقالت: قد سمعت ما قال لك، فأخبرته بما أسر به الرسول صلى الله عليه وسلم فاسترجع سعد، وقال: يا رسول الله، إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلِّ عنها»([23]).
وفي هذه الحادثة درس بالغ للعسكريين وتحذيرهم من إطلاع زوجاتهم على أسرارهم العسكرية، وخططهم وأوامرهم، وينبغي الحذر من إفشاء مثل هذه الأسرار لأن إفشاءها يهدد الأمة ومستقبلها بكارثة كبرى.
رابعًا: مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه رضي الله عنهم وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة، وقال: «إنا في جنة حصينة»([24]) فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول([25]) مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.
قال ابن كثير: (وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ولم يتناهوا إلى
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرًا، قد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة)([26]).
وقال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأمته([27]), فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل»([28]).
كان رأي من يرى الخروج إلى خارج المدينة مبنيًا على أمور منها:
1- أن الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان أغلبهم يرى أن المكوث داخل المدينة تقاعس عن الوفاء بهذا العهد.
2- أن الأقلية من المهاجرين كانت ترى أنها أحق من الأنصار في الدفاع عن المدينة ومهاجمة قريش وصدها عن زروع الأنصار.
3- أن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرقون شوقًا من أجل ملاقاة الأعداء طمعًا في حصول الشهادة في سبيل الله.
4- أن الأكثرين كانوا يرون أن في محاصرة قريش للمدينة ظفرًا يجب ألا تحلم به، كما توقعوا أن وقت الحصار سيطول أمده, فيصبح المسلمون مهددين بقطع المؤن عنهم([29]).
أما من وجهة نظر من يرى البقاء في المدينة فهو مبني على التخطيط الحربي الآتي:
1- أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر، وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمنًا طويلاً إذ لا بد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً.
2- أن مهاجمة المدن المصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال, وخصوصا إذا تشابه السلاح عند كلا الجيشين، وقد كان يوم أحد متشابهًا.
3- أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم.
4- مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.
5- استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار، وغيرها, وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم([30]).
من الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا؛ لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام, فلابد أن يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيه القرآني: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران: 159]
لتعتاد على ممارسة الشورى وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي, فإنه ليس لهم فرضه على القائد, فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء، فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسًا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع([31]).
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على الخروج وقد أعلن حالة الطوارئ العامة وتجهز الجميع للقتال، وأمضوا ليلتهم في حذر, كلٌّ يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة رضي الله عنه. واهتم الصحابة بحراسة رسول الله، فبات سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وسعد بن عبادة في عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ليلة الجمعة مدججين بالسلاح في باب المسجد يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم([32]).
خامسًا: خروج جيش المسلمين إلى أحد:
أ- من الأسباب المهمة التي اتخذها صلى الله عليه وسلم لملاقاة أعدائه اختياره لوقت التحرك والطريق التي تناسب خطته، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا, في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.
ومن المعروف أن من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم، فلا يشعر بالأصوات العالية والحركة الثقيلة، قال الواقدي رحمه الله: ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدلج, فلما كان في السحر قال: «أين الأدلاء؟»([33]) ثم إنه صلى الله عليه وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة رضي الله عنه استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وفي رواية ابن هشام: لمربع بن قيظي وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحث في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه, فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل([1]) قبل نهي رسول الله عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه([2]).
ولا شك في أن مروره صلى الله عليه وسلم بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالاحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السير؛ لأن الطرق العامة تكشف للأعداء على مقدار قوات المسلمين, وهذا أمر محذور، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان، ومن حيث الزمان، لئلا يستطيع الأعداء معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها، وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم لجيوشهم في مهب الرياح.
وفي هذا الخبر تطبيق عملي لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما مر بالجيش في أرض المنافق مربع بن قيظي، وترتب على ذلك إفساد المزرعة، لكن فيه مصلحة للجيش باختصار الطريق لهم إلى أحد، فبين صلى الله عليه وسلم أن ما يكون به مصلحة للدين مقدم على ما سواه من المصالح الأخرى، فهنا تعارضت مصلحتان مصلحة عامة ومصلحة خاصة، ومصلحة الدين في هذا الموقف مصلحة عامة وهي مقدمة على المصلحة الخاصة، وهي مصلحة المال([3]).
وقد رتب الشارع الحكيم مقاصد الشرع في تحقيق المنافع لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها([4])، فإذا نظرنا إلى كليات الدين الخمس وأهميتها وجدنا أن هذه الكليات متدرجة حسب الأهمية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فما يكون به حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما به يكون حفظ العقل، وما به يكون حفظ النسل مقدم على ما به حفظ المال، والترتيب بهذا الشكل من هذه الكليات يحظى باتفاق العلماء([5]).
ب- انسحاب المنافق ابن سلول بثلث الجيش:
عندما وصل جيش المسلمين الشواط([6]) انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا)([7]). وكان هدفه الرئيس من هذا التمرد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي لتنهار معنوياته, ويتشجع العدو، وتعلو همته، وعمله هذا ينطوي على خيانة عظيمة، وبغض الإسلام والمسلمين، وقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق([8]) قال تعالى: ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ) [آل عمران: 179]. فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين, فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن يفضحهم القرآن([9]).
ج- موقف عبد الله بن عمرو بن حرام من انخذال المنافقين:
حاول عبد الله بن حرام رضي الله عنهإقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه([10]). وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران: 166، 167].
د- بنو سلمة، وبنو حارثة:
ولما رجع ابن أبي ابن سلول وأصحابه همت بنو سلمة وبنو حارثة أن ترجعا، ولكن الله ثبتهما وعصمهما، قال جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية فينا: ( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران: 122] بني سلمة، وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: ( وَاللهُ وَلِيُّهُمَا )([11]).
لقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى فدفع عنهم الوهن فثبتوا مع المؤمنين.
وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة تجاه موقف ابن سلول، فالأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم وانشقاقهم عن الجيش، والثاني: لا يرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين([12]) في الآية: ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) [النساء: 88].
هـ – الاستعانة بغير المسلمين:
عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان يدعي الشيخين رأى كتيبة لها صوت وجلبة فقال: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك»([13]), وهذا أصل وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الركون إلى أعداء الإسلام في الاستنصار بهم([14]).
و- رد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لصغر سنهم:
رد النبي صلى الله عليه وسلم في معسكره بالشيخين جماعة من الفتيان لصغر أعمارهم، إذ كانوا في سن الرابعة عشرة أو دون ذلك، منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، بلغ عددهم أربعة عشر صبيًا, وقد ثبت أن ابن عمر كان منهم([15]), وأجاز منهم رافع بن خديج لما قيل له: إنه رامٍ، فبلغ ذلك سمرة بن جندب فذهب إلى زوج أمه مري بن سنان بن ثعلبة عم أبي سعيد الخدري وهو الذي ربى سمرة في حجره يبكي, وقال له: يا أبت أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا وردني، وأنا أصرع رافعًا، فرجع زوج أمه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى رافع وسمرة فقال لهما: «تصارعا» فصرع سمرة رافعًا فأجازه كما أجاز رافعًا، وجعلهما من جنده وعسكر كتائبه، ولكل منهما مجاله واختصاصه([16]).
ونلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز رافعًا وسمرة لامتياز عسكري امتازا به على أقرانهما, ورد صغار السن خشية ألا يكون لهم صبر على ضرب السيوف، ورمي السهام، وطعن الرماح، فيفروا من المعركة إذا حمي الوطيس، فيحدث فرارهم خلخلة في صفوف المسلمين([17]).
ونلحظ أن المجتمع الإسلامي يضج بالحركة، ويسعى للشهادة شيبًا، وشبابًا، وحتى الصبيان يقبلون على الموت ببسالة، ورغبة في الشهادة، تبعث على الدهشة، دون أن يجبرهم قانون التجنيد، أو تدفع بهم قيادة إلى ميدان القتال، وهذا يدل على أثر المنهج النبوي الكريم في تربية شرائح الأمة المتعددة على حب الآخرة والترفع عن أمور الدنيا.
سادسًا: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة كفار مكة:
أ- وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة محكمة لمواجهة المشركين من قريش، حيث اختار الموقع المناسب، وانتخب من يصلح للقتال، ورد من لم يكن صالحًا، واختار خمسين منهم للرماية، وشدد الوصية عليهم، وقام بتقسيم الجيش إلى ثلاث كتائب، وأعطى اللواء لأحد أفراد الكتيبة، وهذه الكتائب هي:
1- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير رضي الله عنه.
2- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير رضي الله عنه.
3- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر رضي الله عنه([18]).
ب- وكان صلى الله عليه وسلم من هديه يحرض أصحابه على قتال الأعداء، ويحثهم على التحلي بالصبر في ميادين القتال، لكي تتقوى روحهم المعنوية ويصمدوا عند ملاقاة أعدائهم، ومن ذلك ما فعله يوم أحد.
ج- أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية جبل أُحُدلحماية جيش المسلمين، فعندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير([19]). ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك يمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين, وأصدر أوامره إليهم قائلا: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم»([20]).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش: لا تبرحوا حتى أؤذنكم، وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال. وقال لأمير الرماة: «انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا»، وقال للرماة: «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا, وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم»([21]).
سيطر المسلمون على المرتفعات وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه أُحدًا وظهره إلى المدينة، وأصبحت مهمة الرماة في النقاط التالية: احتلال الموقع، حماية المسلمين من الخلف، صد الخيل عن المسلمين([22]).
د- تسوية الصفوف وتنظيم الجيش: تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفهم على هيئة صفوف الصلاة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف، ويبوئ أصحابه للقتال يقول: تقدم يا فلان، وتأخر يا فلان، فهو يقومهم…، حتى استوت الصفوف([23]). فوضع صلى الله عليه وسلم في مقدمة الصفوف الأشداء، لكي يفتحوا الطريق لمن خلفهم, وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب؛ لأنه أبلغ في قتال الأعداء([24]).
هـ- عدم القتال إلا بأمر من القائد: قال الطبري: فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» ([25]). وفي هذا التوجيه فائدة مهمة وهي توحيد القيادة والمسئولية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أدرى بالمصلحة.
* * *
المبحث الثاني
في قلــــب المعركـــــــةoe073492
أولاً: بدء القتال واشتداده وبوادر الانتصار للمسلمين:
في بداية القتال حاول أبو سفيان أن يوجد شرخًا وتصدعًا في جبهة المسلمين المتماسكة، فأرسل إلى الأنصار يقول: (خلوا بيننا وبين ابن عمنا، فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتال) فردوا عليه بما يكره([26]).
ولما فشلت المحاولة الأولى لجأت قريش إلى محاولة أخرى عن طريق عميل خائن من أهل المدينة، وهو أبو عامر الراهب، حيث حاول أبو عامر الراهب أن يستزل بعض الأنصار فقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ، ثم قاتلهم قتالاً شديدًا، ورماهم بالحجارة([27]).
وبدأ القتال بمبارزة بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطلحة بن عثمان حامل لواء المشركين يوم أحد، يقول صاحب السيرة الحلبية: خرج طلحة بن عثمان وكان بيده لواء المشركين، وطلب المبارزة مرارًا فلم يخرج إليه أحد فقال: يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار, ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة, فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار أو أعجله بسيفي إلى الجنة؟ فخرج إليه علي بن أبي إليه طالب رضي الله عنه فقال له علي رضي الله عنه : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة, فضربه علي فقطع رجله، فوقع على الأرض فانكشفت عورته، فقال: يا ابن عمي، أنشدك الله والرحم فرجع عنه ولم يجهز عليه، فكبر رسول الله، وقال لعلي بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه([28]).
والتحم الجيشان واشتد القتال، وشرع رسول الله يشحذ في همم أصحابه ويعمل على رفع معنوياتهم وأخذ سيفًا، وقال: «من يأخذ مني هذا؟» فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: «فمن يأخذه بحقه» قال: فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به العدو حتى ينحني» قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب، أي يمشي مشية المتكبر، وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»([29]).
وهذا الزبير بن العوام يصف لنا ما فعله أبو دجانة يوم أحد قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني, والله لأنظرن ما يصنع, فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه, فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول:
ونحن بالسفح لدى النخيل
أنا الذي عاهدني خليلي
أضرب بسيف الله والرسول([30])
أن لا أقوم الدهر في الكيول؟([31])
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحًا إلا ذفف([32]) عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه, فدعوت الله أن يجمع بينهما, فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم([33]). قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمِّس الناس حماسًا شديدًا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول, فإذا امرأة, فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلمأن أضرب به امرأة([34]).
ثانيًا: مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم:
استبسل المسلمون في مقاتلة المشركين وكان شعارهم: أمت، أمت، واستماتوا في قتال بطولي ملحمي سجل فيه أبطال الإسلام صورًا رائعة في البطولة والشجاعة([35]), وسجل التاريخ روائع بطولات حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأبو دجانة وأبي طلحة الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم كثير([36])، وحقق المسلمون الانتصار في الجولة الأولى من المعركة([37]), وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152].
ولما رأى الرماة الهزيمة التي حلت بقريش وأحلافها ورأوا الغنائم في أرض المعركة جذبهم ذلك إلى ترك مواقعهم ظنًا منهم أن المعركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبد الله بن جبير: (الغنيمة الغنيمة, ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة([38]), ثم انطلقوا يجمعون الغنائم ولا يعبأون بقول أميرهم، ووصف ابن عباس رضي الله عنهما حالة الرماة في ذلك الموقف فقال: (فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعًا فدخلوا في المعسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم كذا وشبَّك بين أصابع يديه، والتبسوا فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموقع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضًا، والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير)([39]).
ورأى خالد بن الوليد وكان على خيالة المشركين الفرصة سانحة ليقوم بالالتفاف حول المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك عادوا إلى القتل من جديد, وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وأخذوا يقاتلون بدون تخطيط، فأصبحوا يقاتلون متفرقين, فلا نظام يجمعهم ولا وحدة تشملهم، بل لم يعودوا يميزون بعضهم، فقد قتلوا اليمان والد حذيفة بن اليمان خطأ, وأخذ المسلمون يتساقطون شهداء في الميدان، وفقدوا اتصالهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قُتل([40]), واختلط الحابل بالنابل واشتدت حرارة القتال، وصار المشركون يقتلون كل من يلقونه من المسلمين، واستطاعوا الخلوص قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فرموه بحجر كسر أنفه الشريف ورباعيته([41]) وشجه([42]) في وجهه الكريم فأثقله وتفجر الدم([43]) منه صلى الله عليه وسلم.
عن أنس رضي الله عنهأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيته يوم أحد، وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟» فأنزل الله عز وجل: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 128].
وحمل ابن قمئة على مصعب بن عمير رضي الله عنهحيث كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله، فقال لقريش: قد قتلت محمدًا([44]) وشاع أن محمدًا قد قتل فتفرق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة منهم فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون من هول الفاجعة([45]), ففر جمع من المسلمين من ميدان المعركة، وجلس بعضهم إلى جانب ميدان المعركة بدون قتال، وآثر آخرون الشهادة بعد أن ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن هؤلاء أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهود بدر، والذي قال في ذلك: (والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله كيف أصنع) وقد صدق في وعده، مر يوم أحد على قوم ممن أذهلتهم الشائعة وألقوا بسلاحهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله، فقال: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن رب محمد لم يقتل، وموتوا على ما مات عليه، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء, يعني المشركين، ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، ثم ألقى بنفسه في أتون المعركة، وما زال يقاتل حتى استُشهد, فوُجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فلم تعرفه إلا أخته ببنانه([46]). وفي هذا وأمثاله نزل قول الله تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب: 23]. أما أولئك النفر الذين فروا لا يلوون على شيء رغم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالصمود والثبات فقد نزل فيهم قوله تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [آل عمران: 153].
ولقد حكى القرآن الكريم خبر فرار هذه المجموعة من الصحابة الذين ترخصوا في الفرار بعد سماعهم نبأ مقتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي شاع في ساحة المعركة، وكان أول من علم بنجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه حي هو الصحابي كعب بن مالك الذي رفع صوته بالبشرى, فأمره النبي بالسكوت حتى لا يفطن المشركون إلى ذلك([47]), وقد نص القرآن الكريم على أن الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة التي فرت، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ).
ثالثًا: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في إعادة شتات الجيش:
عندما ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين خلف المسلمين والهدف الرئيسي فيه شخص النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتزحزح عليه الصلاة والسلام من موقفه والصحابة يسقطون واحدًا تلو الآخر بين يديه, وحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب المشركين وليس معه إلا تسعة من أصحابه سبعة منهم من الأنصار، وكان الهدف أن يفك هذا الحصار، وأن يصعد في الجبل ليمضي إلى جيشه، واستبسل الأنصار في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهدوا واحدًا بعد الآخر([48]), ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله حتى أُثخن وأصيب بسهم شلت يمينه([49]), وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة»([50]), وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يناوله النبال ويقول له: «ارم يا سعد، فداك أبي وأمي»([51]), كما قاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري الذي كان من أمهر الرماة، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة»([52]), وقد كان متترسًا على رسول الله بحجفة(ترس من جلد)، وكان راميًا شديد النزع([53]) كسر يومئذ قوسين أو ثلاث، وكان الرجل يمر معه الجعبة([54]) من النبل فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انثرها لأبي طلحة» ثم يشرف إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت، لا تشرف إلى القوم([55]) ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك([56])([57]).
ووقفت نسيبة بنت كعب تذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وترمي بالقوس وأصيبت بجراح كبيرة، وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه حتى كثر فيه النبل([58]). والتفَّ حول الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظات العصيبة أبو بكر وأبو عبيدة, وقام أبو عبيدة بنزع السهمين من وجه النبي صلى الله عليه وسلم بأسنانه, ثم توارد مجموعة من الأبطال المسلمين، حيث بلغوا قرابة الثلاثين يذودون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قتادة وثابت بن الدحداح، وسهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف،والزبير بن العوام.
واستطاع عمر بن الخطاب أن يرد هجومًا مضادًا قاده خالد ضد المسلمين من عالية الجبل، واستبسل الصحابة الذين كانوا مع عمر في رد الهجوم العنيف, عاد المسلمون فسيطروا على الموقف من جديد([59]), ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، وانسحب النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه ومن لحق به من أصحابه إلى أحد شعاب جبل أحد، وكان المسلمون في حالة من الألم والخوف والغم لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أصابهم، رغم نجاحهم في رد المشركين([60]), فأنزل الله عليهم النعاس فناموا يسيرًا، ثم أفاقوا آمنين مطمئنين قال تعالى: ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [آل عمران: 154]. وقد أجمع المفسرون على أن الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون([61]).
أما قريش فإنها يئست من تحقيق نصر حاسم وأجهد رجالها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين وجلدهم وخاصة بعد أن اطمأنوا وأنزل الله عليهم الأمنة والصمود فالتفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كفوا عن مطاردة المسلمين وعن محاولة اختراق قواتهم([62]).
رابعًا: من شهداء أحد:
أ- حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة:
قاتل أسد الله حمزة قتالاً ضاريًا، وأثخن في المشركين قتلاً، وأطاح برؤوس نفر من حملة لواء المشركين من بني عبد الدار، وبينما هو على هذه الحالة من الشجاعة والإقدام كمن له وحشي حتى تمكن منه ثم رماه بحربته، فأصاب منه مقتلاً، ولندع وحشيًا يخبرنا عن هذا المشهد المؤلم، قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، قال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بجبال أحد، بينه وبينه واد, خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور(جمع بظر وكانت تختن البنات)، أتحادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته([63]) حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به([64]), فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل([1]) قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: «أنت وحشي؟» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟» قال: فخرجت فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسليمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان, فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق([2]), ثائر الرأس قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته قال: قال عبد الله ابن الفضل فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين قتله العبد الأسود([3]).
1- سؤال النبي صلى الله عليه وسلمعن مقتل حمزة رضي الله عنه : بعد انتهاء المعركة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل: أنا رأيت مقتله، قال: «فانطلق أرناه» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على حمزة فرآه وقد شق بطنه، وقد مُثِّل به، فقال: يا رسول الله، مُثل به والله([4]), وفي رواية (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة بكى فلما نظر إليه شهق)([5]) ووقف بين ظهراني القتلى فقال: «أنا شهيد على هؤلاء، كفنوهم في دمائهم، فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللحد»([6]).
وباستشهاد حمزة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد تحققت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد أخبر أصحابه عن رؤياه قبل الخروج إلى أحد فقال: «رأيت في سيفي ذي الفقار فلاًّ ([7])، فأولته فلاًّ يكون فيكم (أي انهزامًا)، ورأيت أني مردف كبشًا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير» فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم([8]).
وعن محمود بن لبيد ، قال : ظهر النبيّ صلى الله عليه وآله ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس ، إنّي رأيت في منامي رؤيا ، كأنّي في درع حصينة ، ورأيت كأنّ سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبّته ، ورأيت بقراً تذبح كأنّي مردف كبشاً.
فقال الناس : يا رسول الله ، فما أوّلتها ؟
قال : أمّا الدرع الحصينة فالمدينة ، فامكثوا فيها ، وأمّا انفصام سيفي ظبّته فمصيبة في نفسي ، وأمّا البقر المذبح فقتلى في أصحابي ، وأمّا أنّي مردف كبشاً ، فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله ».
وقال أيضاً : وروي عن ابن عبّاس : أنّ رسول الله قال : أمّا انفصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي ».
2- صبر صفية بنت عبد المطلب على شقيقها حمزة:قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت تشرف على القتلى، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم فقال: المرأة المرأة، قال الزبير: فتوسمت أنها صفية قال: فخرجت أسعى إليها، قال: فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلدمت([9]) في صدري وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك عني لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك.
قال: فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما. قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل فُعل به كما فُعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له([10]).
3- حمزة لا بواكي له: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد سمع نساء الأنصار يبكين فقال: «لكن حمزة لا بواكي له» فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين حمزة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهن يبكين فقال: «يا ويحهن، مازلن يبكين منذ اليوم فليبكين، ولا يبكين على هالك بعد اليوم»([11]) وبذلك حرمت النياحة على الميت.
4- رسول الله صلى الله عليه وسلميسمي غلامًا للأنصار بحمزة: قال جابر بن عبد الله: وُلد لرجل منا غلام، فقالوا: ما نسميه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سموه بأحب الأسماء إليَّ، حمزة بن عبد المطلب» ([12]) فحمزة متجذر في القلب النبوي، عالق بالذاكرة الكريمة.. ولكن الله سبحانه ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم فيما بعد أحب الأسماء إليه، فيقولها صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن» ([13]).
5- فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟([14]): فهذا التوجيه الكريم لا يوجد فيه شيء من المؤاخذة والتأثيم لوحشي, وإنما هو تذكير له بأن رؤيته تجلب له شيئًا من المتاعب النفسية, وتحرك في نفسه ذكريات حادث القتل وما تبعه من تمثيل شنيع بشع بعمه، فتثير عنده حزازات بشرية ربما لا يكون من المستطاع منعها ومقاومتها إلا بشيء من العسر والعنت الشديد, مما قد يشغل النبي صلى الله عليه وسلم ويقلقه([15]), فأشار عليه صلى الله عليه وسلم بأن يغيب وجهه حتى يفقد مصدر التذكير بتلك المصيبة([16])، وفي رواية صحيحة قال وحشي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «وحشي» قلت: نعم، قال: «قتلت حمزة؟» قلت: نعم, الحمد الله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده، فقالت له قريش: أتحبه وهو قاتل حمزة؟ فقلت: يا رسول الله فاستغفر لي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ثلاثة، ودفع في صدري ثلاثة، وقال: «وحشي, اخرج فقاتل في سبيل الله، كما قاتلت لتصد عن سبيل الله»([17]) فهذا من التوجيه الإرشادي النبوي إلى مكفرات ما سلف من الكفر ومحادة الله تعالى ورسوله، وذكر القتال في سبيل الله بيان للأمر الأنسب في التكفير, وفي حض من النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء راية الجهاد, ولعل مخرج وحشي إلى اليمامة وقتله مسيلمة الكذاب كان أثرًا من آثار توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفضل ما يمحو الخطايا، ويحتُّ الذنوب ويطهر الآثام.
وقد أدرك وحشي ذلك فقال حين قتل مسيلمة الكذاب: قتلت خير الناس يعني سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وقتلت شر الناس مسيلمة الكذاب([18]).
ب- مصعب بن عمير رضي الله عنه:
قال خباب رضي الله عنه: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر»([19])، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها([20]), ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أنه أتى بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وكان خيرًا مني, فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة, وقتل حمزة أو رجل آخر خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه، إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي([21]) ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له ثم قرأ هذه الآية: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب: 23] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم, والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه»([22]).
ج- سعد بن الربيع رضي الله عنه:
هذا الذي استكتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مسير قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، فلما انتهت معركة أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الأسنة شرعت إليه، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه: أنا أنظره لك يا رسول الله، فقال له: «إن رأيت سعد بن الربيع فأقرأه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجدك؟» فنظر أبي فوجده جريحًا به رمق، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: قد طعنت اثنتي عشرة طعنة, وقد أنفذت إلى مقاتلي([23]), وفي رواية صحيحة قال: على رسول الله وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر([24]) يطرف, قال: وفاضت نفسه رحمه الله([25]). وهذا نصح لله ورسوله في سكرات الموت يدل على قوة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة لم يتأثر بالموت ولا آلام القروح.
د- عبد الله بن جحش رضي الله عنه:
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت, قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط([26]). وفي هذا الخبر جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله، وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه([27]).
هـ- حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه(غسيل الملائكة):
لما انكشف المشركون ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض، فصاح حنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شداد، ويقال له ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ومشى إليه حنظلة بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض بماء المزن، في صحاف الفضة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاسألوا أهله ما شأنه؟» فسألوا صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة([28]), فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلذلك غسلته الملائكة»([29]).
وفي رواية الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى بالصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعدُ: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها، وتعلق بعبد الله بن حنظلة, ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس([30]).
وفي هذا الخبر مواقف وعبر منها:
1- في تعلق جميلة بنت عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرؤيا التي فسرتها بالشهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتى لا تحمل منه فتكون بعد ذلك غير حظية لدى الخطاب، لكنها تعلقت به رجاء أن تحمل منه فتلد ولدًا ينسب لذلك الشهيد الذي بلغ درجات عليا في الصلاح أولاً, ثم بما ترجوه من نيله الشهادة، ولقد حصل لها ما أملت به فحملت منه وولدت ولدًا ذكرا سمي عبد الله، وكان له ذكر بعد ذلك، وكان من أعلى ما يفتخر به أن يقول: أنا ابن غسيل الملائكة.
2- في حرص حنظلة القوي على مقارعة أعداء الله الذي يتمثل في سرعة خروجه إلى الميدان، الأمر الذي لم يتمكن معه من غسل الجنابة.
3- شجاعته الفائقة تظهر في تصديه لقائد المشركين أبي سفيان بن حرب والقائد غالبًا يكون حوله من يحميه، وهو فارس وحنظلة راجل.
4- تشريف رباني كريم في نزول الملائكة لتغسيل حنظلة بمياه المزن في صحاف الفضة.
5- معجزة نبوية في إخبار الصحابة عما قامت به الملائكة من تغسيل, حيث رأى صلى الله عليه وسلم الملائكة وهي تغسل ولم ير الصحابة ذلك([31]).
6- إذا كان الشهيد جنبًا، غسل، كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر([32]).
و- عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه:
أصر عبد الله بن عمرو بن حرام على الخروج في غزوة أحد، فخاطب ابنه جابر بقوله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي([33]).
وقال لابنه أيضا: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن على دينًا فاقض واستوص بأخواتك خيرًا([34]). وخرج مع المسلمين ونال وسام الشهادة في سبيل الله، فقد قتل في معركة أحد, وهذا جابر يحدثنا عن ذلك حيث يقول: لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه»([35]).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟» قال: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا، قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا، يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك فقال: يا عبدي، تمنَّ عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب سبحانه: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون, قال: يا رب.. فأبلغ من ورائي»([36]). فأنزل الله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) [آل عمران: 169]، وقد رأى عبد الله بن عمرو رؤية في منامه قبل أحد, قال: رأيت في النوم قبل أحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى ثم أحييت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه الشهادة يا أبا جابر([37]), وقد تحققت تلك الرؤيا بفضل الله ومنه.
ز-خيثمة أبو سعد رضي الله عنه:
قال خيثمة أبو سعد، وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدًا([38]).
ح- وهب المزني وابن أخيه رضي الله عنهما:
أقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنم لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوًا فسألا: أين الناس؟ فقالوا: بأحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش، فقالا: لا نبتغي أثرًا بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد فيجدان القوم يقتتلون والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من وراءهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذه الفرقة؟» فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع. فانفرقت فرقة أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذه الكتيبة؟» فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني، ثم طلعت كتيبة أخرى فقال: «من يقوم لهؤلاء؟» فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقال: «قم، وأبشر بالجنة» فقام المزني مسرورًا يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المسلمين، حتى خرج من أقصاهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ارحمه» ثم يرجع فيهم, فما زال كذلك وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذ عشرون طعنة برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومُثل به أقبح المثلة يومئذ, ثم قام ابن أخيه فقاتل قتاله حتى قتل, فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت لما مات عليها المزني([39]).
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتى من آل قابوس من مزينة([40]), فجئت سعدًا حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال, قال: مرحبًا بك, من هذا معك؟ قلت: رجل من قومي من آل قابوس، قال سعد: ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه، قال سعد: مرحبًا وأهلاً وأنعم الله بك عينًا، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهدًا ما شهدته من أحد، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا, والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم([41]) يقول: «من لهذه الكتيبة؟» كل ذلك يقول المزني: أنا يا رسول الله، كل ذلك يرده فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم وأبشر بالجنة» قال سعد: وقمت على أثره يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه -رحمه الله- وودت والله أني كنت أصبت يومئذ معه، ولكن أجلي استأخر، ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله، وقال: اختَرْ في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك، فقال بلال: إنه يستحب الرجوع، فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا عليه وهو مقتول، وهو يقول: «رضي الله عنك فإني عنك راضٍ»، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وُضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم البردة على رأسه فخمره، وأدركه فيها طولا، وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه, وهو في لحده، ثم انصرف، فما حال أموت عليها أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله تعالى على حال المزني([42]).
وهكذا يفعل الإيمان بأصحابه فهذا وهب المزني وابن أخيه تركا الأغنام بالمدينة والتحقا بصفوف المسلمين وحرصا على نيل الشهادة، فأكرمهما الله بها، وقد كانت تلك الملحمة التي سطرها المزني محفورة في ذاكرة الصحابة، فهذا سعد بن أبي وقاص يتذكرها بعد مرور ثلاث عشرة سنة تقريبا على غزوة أحد لمجرد سماع اسم رجل من عشيرة المزني ويتمنى أن يموت ويلقى الله على مثل حالة المزني.
ط- عمرو بن الجموح رضي الله عنه:
كان عمرو بن الجموح رضي الله عنهأعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، وهم خلاد ومعوذ ومعاذ وأبو أيمن، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله تعالى فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم لا تردني إلى أهلي خائبًا فقتل شهيدًا.
وفي رواية أتى عمرو بن الجموح رضي الله عنهإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُعلوا في قبر واحد([1]).
وفي هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج([2]).
وفيه دليل على شجاعة عمرو بن الجموح ورغبته في نيل الشهادة وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك.
ي- أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش -رضي الله عنهم-:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حُسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الآطام([3]) مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما تنتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء([4]) حمار, إنما نحن هامة اليوم أو غد([5]), أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي، فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم([6]) خيرًا. وفي هذا الخبر، يظهر أثر الإيمان في نفوس الشيوخ الكبار الذين عذرهم الله في الجهاد وكيف تركوا الحصون وخرجوا إلى ساحات الوغى طلبًا للشهادة وحبًا وشوقًا للقاء الله تعالى، وفيه موقف عظيم لحذيفة، حيث تصدق بدية والده على المسلمين، ودعا لهم بالمغفرة لكونهم قتلوا والده خطأ، وفيه أيضًا: أن المسلمين إذا قتلوا واحدًا منهم في الجهاد يظنونه كافرًا، فعلى الإمام ديته من بيت المال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة، فامتنع حذيفة من أخذ الدية، وتصدق بها على المسلمين([7]).
ك- الأمور بخواتيمها:
إن الأمور بخواتيمها, وقد وقع في غزوة أحد ما يحقق هذه القاعدة المهمة في هذا الدين، فقد وقع حادثان يؤكدان هذا الأمر، وفيهما عظة وعبرة لكل مسلم متعظ ومعتبر([8]).
1- شأن الأصيرم رضي الله عنه:
واسمه عمرو بن ثابت بن وقش، عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وروى قصته أبو هريرة رضي الله عنه: أن الأصيرم كان يأبى الإسلام على قومه، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأُحد فقال: أين سعد بن معاذ؟ فقيل: بأحد، فقال: أين بنو أخيه؟ قيل: بأحد: فسأل عن قومه فقيل: بأحد, فبدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه، ورمحه، وأخذ لأمته، وركب فرسه فعدا حتى دخل في عرض الناس، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى أثخنته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذ هم به، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء بك؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله تعالى ورسوله، وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، وإن مت فأموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه من أهل الجنة». وقيل: مات فدخل الجنة وما صلى من صلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَمِل قليلاً وأُجر» ([9]) وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ قال: هو أصيرم بن عبد الأشهل([10]).
2- شأن مخيريق:
لما كانت غزوة أحد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، جمع مخيرقٌ قومه اليهود وقال لهم: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود([11]).
وقد اختلف في إسلامه, فنقل الذهبي في التجريد وابن حجر في الإصابة عن الواقدي([12]) أن مخيريق مات مسلمًا، وذكر السهيلي في الروض الأنف أنه مسلم، وذلك حين قال معقبًا على رواية ابن إسحاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مخيريق خير يهود» قال: ومخيريق مسلم، ولا يجوز أن يقال في مسلم هو خير النصارى، ولا خير اليهود؛ لأن أفعل من كذا، إذا أضيف فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنه قال: خير يهود، ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال: إنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ثم عربت الذال دالا([13]). وقد حقق هذه المسألة الدكتور عبد الله الشقاوي في كتابه (اليهود في السنة المطهرة) وذهب إلى أن مخيريق قد أسلم، ودفعه ذلك إلى القتال مع المسلمين، وإلى التصدق بماله مع كثرته، ومع ما عرف عن اليهود من حب المال والتكالب عليه([14]).
ل- إنما الأعمال بالنيات:
كان ممن قاتل مع المسلمين يوم أحد رجل يدعى قزمان، كان يعرف بالشجاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه من أهل النار، فتأخر يوم أحد فعيرته نساء بني ظفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح ويكت كتيت الجمل، ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة أو تسعة وأصابته جراحة، فوقع فناداه قتادة بن النعمان: يا أبا الغيداق، هنيئًا لك الشهادة, وجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا؟ فوالله ما قاتلت إلى على أحساب قومي، فلولا ذلك ما قاتلت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه من أهل النار، إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»([15]). وفي هذا الخبر بيان لمكان النية في الجهاد، وإنه من قاتل حمية عن قومه أو ليقال شجاع ولم تكن أعماله لله تعالى لا يقبل الله منه.
خامسًا: من دلائل النبوة:
1- عين قتادة بن النعمان رضي الله عنه:
أصيبت عين قتادة رضي الله عنهحتى سقطت على وجنتيه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وأصبحت لا ترمد إذا رمدت الأخرى([16]), وقد قدم ولده على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فسأله من أنت؟ فقال له مرتجلا:
فردت بكف المصطفى أحسن الرد
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه
فيا حسنها عينًا ويا حسن ما خد
فعادت كما كانت لأول أمرها
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
ثم وصله فأحسن جائزته([17]).
2- مقتل أبي بن خلف:
كان أبي بن خلف يلقى رسول الله بمكة، فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسًا أعلفه كل يوم، أقتلك عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما كان يوم أحد، وأسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد لا نجوت، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوه» فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطاير عنه من حوله تطاير الشعراء([18]) عن ظهر البعير إذا انتفض بها, ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ ([19]) منها عن فرسه، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد, قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف([20]), وهم قافلون به إلى مكة([21]).
وفي هذا الخبر مثل رفيع على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أبي بن حلف مدججًا بالسلاح ومتدرعًا بالحديد الواقي، ومع ذلك استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعنه بالرمح من فرجة صغيرة في عنقه بين الدرع والبيضة، وهذا يدل على قدرة رسول الله القتالية ودقته في إصابة الهدف، وفي هذا الخبر معجزة للنبي فقد أخبر أبيًا بأنه سوف يقتله بمشيئة الله وتم ذلك، وفي الخبر عبرة في إيمان المشركين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا قال شيئًا وقع, فقد كان أبي بن خلف على يقين بأنه سيموت من تلك الطعنة، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام لعنادهم وعبادة أهوائهم([22]). وقد خلد حسان بن ثابت هذه الحادثة في شعره فقال:
أبي يوم بارزه الرسول
لقد ورث الضلالة عن أبيه
وتوعده وأنت به جهول([23])
أتيت إليه تحمل رم عظم
المبحث الثالث
أحداث ما بعد المعركة
أولا: حوار أبي سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
قال البراء رضي الله عنه: وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه», فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه», فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: اعلُ هبل([24]), فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه», قال: قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل», قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه», قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم», قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني([25]). وفي رواية قال عمر: (لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار)([26]).
كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم؛ لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه لا يقوم الإسلام بعدهم.
وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولاً تصغيرًا له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر، وردوا عليه بشجاعة([27]).
وفي هذا يقول ابن القيم في تعليقه على هذا الحوار: فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبشركه، تعظيمًا للتوحيد. وإعلامًا بعزة من عبده المسلمون، وقوة جانبه، وأنه لا يغلب، ونحن حزبه وجنده. ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل روي أنه نهاهم عن إجابته، وقال: لا تجيبوه؛ لأن كَلْمَهم لم يكن برد في طلب القوم، ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت يا عدو الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة وعدم الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال، ما يؤذيهم بقوة القوم وبسالتهم, وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسؤوهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه، وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو كيده، فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عمر فرد بسهام كيده عليه، وكان ترك الجواب عليه أحسن، وذكره ثانيًا أحسن، وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأله عنهم إهانة له، وتصغيرًا لشأنه، فلما منته نفسه موتهم, وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل، كان في جوابه إهانة له، وتحقير وإذلال, ولم يكن هذا مخالفًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجيبوه» فإن إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً، ولا أحسن من إجابته ثانيًا([28]).
ثانيًا: تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشهداء:
بعد أن انسحب أبو سفيان من أرض المعركة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتفقد أصحابه رضي الله عنهم، فمر على بعضهم، ومنهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع والأصيرم، وبقية الصحابة رضي الله عنهم، فلما أشرف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا شهيد على هؤلاء, إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله بعثه يوم القيامة، يدمي جرحه, اللون لون دم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعًا للقرآن، فاجعلوه أمام أصحابه في القبر»([29]).
وقال جابر بن عبد الله في رواية البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى واحد قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا([30]).
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث صرعوا، وأعيد من أخذ ليدفن داخل المدينة([31]).
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، وقد مُثِّل به حزن حزنًا شديدًا، وبكى حتى نشغ([32]) من البكاء([33]) وقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم»، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن ظفرنا الله بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب([34]), فنزل قول الله تعالى: ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ) [النحل: 126]. لقد ارتكب المشركون صورًا من الوحشية، حيث قاموا بالتمثيل في قتلى المسلمين فبقروا بطون كثير من القتلى وجدعوا أنوفهم، وقطعوا الآذان ومذاكير بعضهم([35]). ومع ذلك صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستجابوا لتوجيه المولى عز وجل، فعفا وصبر وكفَّر عن يمينه، ونهى عن المثلة.
روى ابن إسحاق بسنده عن سمرة بن جندب قال: (ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه، حتى يأمرنا بالصدقة وينهانا عن المثلة)([36]).
ثالثًا: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعود، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا، حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات الدالة على عمق الإيمان([37]), فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت, اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة, والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق»([38]) ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة([39]).
وهذا أمر عظيم شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته لكي يطلبوا النصر والتوفيق من رب العالمين، وبين لأمته أن الدعاء مطلوب في ساعة النصر والفتح، وفي ساعة الهزيمة لأن الدعاء مخ العبادة, كما أنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ويجعل القلوب متعلقة بخالقها، فينزل عليها السكينة، والثبات والاطمئنان ويمدها بقوة روحية عظيمة، فترتفع المعنويات نحو المعالي وتتطلع إلى ما عند الله تعالى.
في أعقاب المعركة، يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أهبته وينظم المسلمين صفوفًا، لكي يثني على ربه عز وجل، إنه لموقف عظيم، يجلي إيمانًا عميقًا، ويكشف عن العبودية المطلقة لرب العالمين الفعَّال لما يريد، فهو القابض والباسط، المعطي والمانع، لا راد ولا معقب لحكمه.
إن هذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجل المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار، وأبرز ما يكون الحمد والثناء([40]).
رابعًا: معرفة وجهة العدو:
بعد أن انسحب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الغزوة مباشرة، وذلك لمعرفة اتجاه العدو، فقال له: «اخرج في آثار القوم، وانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» قال علي: فخرجت في أثرهم ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة([41]). فرجع علي رضي الله عنه وأخبر رسول الله بخبر القوم.
وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها:
يقظة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو، وقدرته صلى الله عليه وسلم على تقدير الأمور، وظهور قوته المعنوية العالية، ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة، وفيه ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه ومعرفته بمعادن الرجال، وفيه شجاعة علي رضي الله عنه ؛ لأن هذا الجيش لو أبصره ما تورع في محاولة قتله([42]), ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في أرض المعركة بعد أن انتهت، تفقد خلالها الجرحى والشهداء، وأمر بدفنهم ودعا ربه وأثنى عليه سبحانه، وأرسل عليًّا ليتتبع خبر القوم، كل ذلك من أجل أن يحافظ على النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة أحد، وهذا من فقه سنن الله تعالى في الحروب والمعارك، فقد جعل سبحانه من سننه في خلقه أن جعل للنصر أسبابًا، وللهزيمة أسبابًا، فمن أخذ بأسباب النصر، وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى حقيقة التوكل نال النصر بإذن الله عز وجل، كما قال تعالى: ( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً ) [الفتح: 23].
ويتجلى فقه النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة سنة الأخذ بالأسباب في غزوة حمراء الأسد.
خامسًا: غزوة حمراء الأسد:
نجد في بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم تابع أخبار المشركين بواسطة بعض أتباعه حتى بعد رجوعهم إلى مكة، وبلغه مقالة أبي سفيان يلوم فيها جنده لكونهم لم يشفوا غليلهم من محمد وجنده، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انصرف أبو سفيان والمشركون من أحد وبلغوا الروحاء([43]) قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم, شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم([44]). وتفيد هذه الرواية خبر استطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم أعداءه حتى بعد انتهاء المعركة؛ وذلك لكي يطمئن على عدم مباغتتهم له.
وعندما سمع ما كان تعزم عليه قريش من العودة إلى المدينة خرج بمن حضره يوم أحد من المسلمين دون غيرهم إلى حمراء الأسد.
قال ابن إسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وألا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج مرهبًا للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم([45])، وقد استجاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنداء الجهاد حتى الذين أصيبوا بالجروح، فهذا رجل من بني عبد الأشهل يقول: شهدت أحدًا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة (نوبة), حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون([46]). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، واقترب بجنوده من جيش المشركين فأقام فيه ثلاثة أيام يتحدى المشركين, فلم يتشجعوا على لقائه ونزاله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإشعال النيران فكانوا يشعلون في وقت واحد خمسمائة نار([47]).
وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان، فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، فقد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة([48]). فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال معبد: فإني أنهاك عن ذلك،
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وحاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشن حرب نفسية على المسلمين، لعله يرهبهم فأرسل مع ركب عبد القيس -وكانوا يريدون المدينة للميرة- رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفادها، أن أبا سفيان وجيشه قد أجمعوا على السير إليه وإلى أصحابه ليستأصلهم من الوجود، وواعد أبو سفيان الركب أن يعطيهم زبيبًا عندما يأتوه في سوق عكاظ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال هو والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل([49]). واستمر المسلمون في معسكرهم، وآثرت قريش السلامة والأوبة، فرجعوا إلى مكة، وبعد ذلك عاد المسلمون إلى المدينة بروح قوية متوثبة، غسلت عار الهزيمة، ومسحت مغبة الفشل، فدخلوها أعزة رفيعي الجانب، عبثوا بانتصار المشركين، وهزوا أعصابهم، وأحبطوا شماتة المنافقين واليهود في المدينة، وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحرب الباردة، وسجل ظواهرها([50]) بقوله تعالى: ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 172-175] ووقع في أسر النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجوعه إلى المدينة أبو عزة الجمحي الشاعر فقتل صبرًا؛ لأنه أخلف وعده للرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يقاتل ضده عندما منَّ عليه ببدر وأطلقه, فعاد فقاتل في أحد، وقد حاول أبو عزة أن يتخلص من القتل، وقال: يا رسول الله أقلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا والله، لا تمسح عارضيك([51]) بمكة بعدها، وتقول: خدعت محمدًا مرتين، اضرب عنقه يا زبير»([52]) فضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»([53]) فصار هذا الحديث مثلا ولم يسمع قبل ذلك.
وبعد هذا العمل من قبيل السياسة الشرعية؛ لأن هذا الشاعر من المفسدين في الأرض، الداعين إلى الفتنة، ولأن في المن عليه تمكينًا له من أن يعود حربًا على المسلمين.
ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي([54]).
وأما عدد القتلى من المسلمين في أحد فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيدًا من المسلمين، ويؤيد هذا تفسير قوله تعالى: ( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، قال ابن عطية رحمه الله: وكان المشركون قد قتلوا منهم سبعين نفرًا، وكان المسلمون قد قتلوا من المشركين ببدر سبعين وأسروا سبعين([55]), أما عدد الذين قتلوا يوم أحد من المشركين فاثنان وعشرون قتيلا([56]). كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاحقة المشركين في غزوة حمراء الأسد يهدف لتحقيق مجموعة من المقاصد المهمة منها:
1- ألا يكون آخر ما تنطوي عليه نفوس الذين خرجوا يوم أحد هو الشعور بالهزيمة.
2- إعلامهم أن لهم الكرة على أعدائهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله ورسوله.
3- تجرئة الصحابة على قتال أعدائهم.
4- إعلامهم أن ما أصابهم في ذلك اليوم إنما هو محنة وابتلاء اقتضتها إرادة الله وحكمته وأنهم أقوياء، وأن خصومهم الغالبين في الظاهر ضعفاء([57]).
كما أن في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم، حيث خرج صلى الله عليه وسلم بجنوده إلى حمراء الأسد، ومكث فيها ثلاثة أيام، وأمر بإيقاد النيران فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها، حتى خيل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لا طاقة لهم به فانصرفوا، وقد ملأ الرعب أفئدتهم([58]). قال ابن سعد: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى بذلك عدوهم)([59]).
سادسًا: مشاركة نساء المسلمين في معركة أحد:
كانت غزوة أحد أول معركة في الإسلام تشارك فيها نساء المسلمين، وكان لهذا أثر بالغ في سقي المحاربين وتضميد الجرحى، وقد ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن في هذه المعركة، فقد خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم, وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأم عمارة، وحمنة بنت جحش الأسدية، وأم سليط، وأم سليم، ونسوة من الأنصار([60])، قال ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه: (إن عمر بن الخطاب قسم مروطًا بين نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك, يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر رضي الله عنه : أم سليط أحق به من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنها كانت تزفر([61]) لنا القرب يوم أحد([62]».
أ- سقي العطشى من المجاهدين:
عن أنس رضي الله عنهقال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهن تنقزان([63]) القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم([64]).
وقال كعب بن مالكرضي الله عنه: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى([65]).
ب- مداواة الجرحى ومواساة المصابين:
عن أنس بن مالك رضي الله عنهقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى([66]).
وأخرج عبد الرزاق عن الزهري: كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى([67]). وعن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي القوم، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة، وفي رواية: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة([68]). وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد رضي الله عنه وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم([69]).
ج- الدفاع عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم بالسيف:
لم تقاتل المشركين يوم أحد إلا أم عمارة نسيبة المازنية -رضي الله عنها-, وهذا ضمرة ابن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدًا تسقي الماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان» وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحًا، فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحًا جرحًا فوجدتها ثلاثة عشر جرحًا، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها -وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة- ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني([70]) -أخو أم عمارة- يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك([71]). وقد علق الأستاذ حسين الباكري عن مشاركة نسيبة بنت كعب في القتال فقال: وخروج المرأة للقتال مع الرجل لم يثبت في ذلك منه شيء غير قصة نسيبة, وقتال نسيبة إنما كان اضطراريًا حين رأت أن رسول الله أصبح في خطر حين انكشف عنه الناس، فأم عمارة كانت في موقف أصبح حمل السلاح واجبًا على من يقدر على حمله رجلا كان أو امرأة([72]).
وعلق الدكتور أكرم ضياء العمري على الآثار الدالة في مشاركة النساء في أحد بقوله: وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء، مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار المسلمين فيجب قتاله من الجميع رجالا ونساء([73]).
وأما الأستاذ محمد أحمد باشميل فقد قال: وقد كانت معركة أحد أول معركة قاتلت فيها المرأة المسلمة المشركين في الإسلام، ومن الثابت أن امرأة واحدة فقط اشتركت في هذه المعركة، وهي تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه من الثابت أيضًا أن المرأة التي اشتركت في معركة أحد، لم تخرج بقصد القتال فهي لم تكن مجندة فيها كالرجال، وإنما خرجت لتنظر ما يصنع الناس لتقوم بأية مساعدة يمكنها القيام بها للمسلمين كإغاثة الجرحى بالماء وما شابه ذلك، يضاف إلى هذا أن هذه المرأة التي خاضت معركة أحد هي امرأة قد تخطت سن الشباب، كما أنها لم تخرج إلى المعركة إلا مع زوجها وابنيها الذين كانوا من الجند الذين قاتلوا في المعركة، يضاف إلى هذا الرصيد الهائل الذي لديها من المناعة الخلقية والتربية الدينية، فلا يقاس على هذه الصحابية الجليلة مجندات هذا الزمان اللواتي يرتدين لباس الميدان وعنصر الإغراء والفتنة هو أهم عنصر يتميزن به ويحرصن على إظهاره للرجال فأين الثرى من الثريا؟
كذلك رجال ذلك العصر لا يقاس عليهم أحد من رجال هذا الزمان من ناحية الشهامة والاستقامة والعفة والرجولة، فكل المحاربين الذين اشتركت معهم امرأة في معركة أحد كانوا صفوة الأمة الإسلامية ورمز نبلها وشهامتها وعنوان رجولتها واستقامتها، فلا يصح مطلقًا جعل اشتراك تلك المرأة في معركة أحد قاعدة تقاس عليها (من الناحية الشرعية) إباحة تجنيد المرأة في هذا العصر لتقاتل بجانب الرجل (كعنصر أساسي من عناصر الجيش), فالقياس في هذه الحالة قياس مع الفارق وهو قياس باطل قطعًا([74]).
سابعًا: دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمة:
أ- صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
لما استُشهد أخوها حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في أحد وجاءت لتنظر إليه وقد مثل به المشركون؛ فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مُثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت([75]), واستغفرت له([76]).
ب- حمنة بنت جحش رضي الله عنها:
لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن أصحابه -رضي الله عنهم- ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمنة: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «أخوك عبد الله بن جحش» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون, غفر الله له, هنيئًا له الشهادة, ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «خالك حمزة بن عبد المطلب» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «زوجك مصعب بن عمير»، قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان» لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: «ولم قلت هذا؟» قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني, فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف([77]). فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمدًا وعمران([78]) وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها([79]).
ج- المرأة الدينارية رضي الله عنها:
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل([80])، تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.
د- أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد الخزرجية رضي الله عنها:
خرجت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي, فقال رسول الله: «مرحبًا بها» فدنت حتى تأملت رسول الله فقالت: أما إذا رأيتك سالمًا، فقد أشوت([81]) المصيبة، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: «يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعًا، وهم اثنا عشر رجلاً، وقد شفعوا في أهليهم» قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خُلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم, وأحسن الخلف على من خُلفوا»([82]).
المبحث الرابع
بعض الدروس والعبر والفوائد
لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفًا دقيقًا، وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحًا من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعًا وقويًا، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عما جاء في كتب السيرة, فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، والناظر عموما في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول.
يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجًا عميقًا عنيفًا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد، كما لو كانت تتحرك، ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير([83]).
إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله، تعتبر انعكاسًا في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره، وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم، ونحاول تسليط الأضواء على بعض النقاط المهمة في هذا المنهج.
أولا: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
قال تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 137-139].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم([84]).
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين([85]).
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم([86]).
وفي قوله تعالى: ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
ثانيًا: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
قال تعالى: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران: 140-143].
بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى([87]).
وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا([88]). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم([89]). وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات, وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا([90]).
ثالثًا: كيفية معالجة الأخطاء:
ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 67، 68].
وقال في أحد: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه([91]).
رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال([92]).
وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء ( فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده([93]).
خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده: ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها.
ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة([94]) رضي الله عنهم، قال تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [آل عمران: 153].
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم([95]).
سادسًا: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [آل عمران: 14].
وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»([96]) ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد.
قال ابن عباس رضي الله عنه : لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نريم([97]) حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم)([98]) فنزلت: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
قال الطبري: قوله سبحانه: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يعني الغنيمة, قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد([99]) ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ).
إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها([100]).
سابعًا: التعلق والارتباط بالدين:
قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144] أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه([101]).
وقد جاء في تفسير الآية السابقة، أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله: ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: ( وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا([102]).
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ([103]).
قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت، وما نُعت محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144], والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم)([104]).
قال القرطبي: (فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء)([105]). وكلامه -رحمه الله- نفيس جدًا، فالذين ظنوا من قبل أن الإسلام قد انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن ظهور الإسلام ودعوته متوقف على شخص بعينه، فهؤلاء وأولئك قد أخطأوا ولم يقدروا هذا الدين قدره، ولم يوفوه حقه؛ لأن ظهور هذا الدين وهيمنته على كل الأديان هو قدر الله عز وجل وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [التوبة: 33]. فسبب ظهور هذا الدين أنه حق وأنه هدى([106]).
في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد, وعند موت الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم([107]) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة([108]), فكشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)([109]).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر رضي الله عنه فقال أبو بكر رضي الله عنه : أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144] وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر رضي الله عنه تلاها فَعَقِرْت([110]) حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها, علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات([111]).
ثامنًا: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا:
أ- الرماة: إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصف، ولم يقل لهم إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة، رغم ما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وما ترتب عليه من خسائر فادحة، فعفا سبحانه وتعالى عفوًا غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا, قال تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152], وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثرًا في نفوسهم يعوقها بعض الشيء, ذلك هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلا بد أن ينالوا منه عفوًا تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفًا له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم([112]), قال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران: 159].
ب- انخذال ابن سلول المنافق:
كان هدف عبد الله ابن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته. وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحلك الظروف، وقد حاول عبد الله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخذال إلا أنهم رفضوا دعوته([113]), وفيهم نزل قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران: 166-167].
فالبرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد, لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس([114]). وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الإمام الزهري: كان عبد الله بن أبي له مقام يقومه كل جمعة لا ينكسر له شرفًا في نفسه وفي قومه, وكان فيهم شريفًا, إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به, فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجرًا([115]), إن قمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرًا أن قمت أشدد أمره, قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي([116]).
تاسعًا: «أحد جبل يحبنا ونحبه»:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَع له أحدٌ فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه»([117]).
وهذا يدل على دقة شعور النبي صلى الله عليه وسلم حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟. ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى([118]).
والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ما ذكره الحميدي، ومنها ما قاله الأستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيرًا ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها.. وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بيانًا للحق، وابتعادًا عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان, ولا شك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لا يرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيئ بين لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لا علاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمر بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لا مصيبة، وهكذا تتسق المفاهيم في إطارها الإيماني, إذًا (أحد) يكرم ويحب انطلاقًا من هذا القول الكريم، وكيف لا يكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته([119]).
عاشرًا: الملائكة في أحــــــــد:
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام([120]). وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد([121]), قال تعالى: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ` بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 124، 125].
حادي عشر: قوانين النصر والهزيمة من سورة الأنفال، وآل عمران:
تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر بشيء من التفصيل، وتحدثت سورة آل عمران عن غزوة أحد لكي تتعلم الأمة كثيرًا من المفاهيم، تتعلق بمفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المنحة والمحنة، ومن المفاهيم التي تعلمها الصحابة -رضي الله عنهم- من خلال أحداث بدر وأحد وسورتي الأنفال وآل عمران، قوانين النصر والهزيمة، وهذه القوانين قد بينتها الآيات الكريمة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ- النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عز وجل, وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 10].
ب- وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه،
وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة, قال تعالى: ( إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران: 160].
ج- ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل, نحن بحاجة إلى فقهها, فلا بد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده, قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد: 7]. ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله.
د- ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة, قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46]..
هـ- وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46].
و- وحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره, قال تعالى: ( حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
ز- ونقص العدد والعدة ليس هو سبب الهزيمة، قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [آل عمران: 123].
ح- ولكن لا بد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو([122]), قال تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) [الأنفال: 60].
ط- والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الأنفال: 45]. وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ لأَدْبَارَ )[الأنفال:15].
ي- ولا شيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء مثل ذكر الله الكثير, باتجاه القلب إلى الله وحده منزل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات, والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر([123]), قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الأنفال: 45].
ثاني عشر: فضل الشهداء وما أعده الله لهم من نعيم مقيم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات([124]), قال تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 169-171].
وقد جاء في تفسير الآيات السابقة ما رواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة, فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ) إلى قوله: ( وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )([125]). وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ). قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا»([126]).
ثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين:
كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء, وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة، وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراؤهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبد الله الزَّبَعْرَى وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص([127]).
وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويوبخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة، حتى لا يغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين.
ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على
ما نكلوا عنه([128]). ومما قاله في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء:
جداية شركٍ معلمات الحواجب([129])
إذا عَضَلٌ سيقت إلينا كأنها
وحُزناهم بالضرب من كل جانب([130])
أقمنا لهم طعنًا مبيرًا منكلاً
يباعون في الأسواق بيع الجلائب([131])
فلولا لواء الحارثية أصبحوا
تمت أحداث الغزوة والحمد لله رب العالمين
من كتاب (السيرة النبوية دروس وعبر ) للدكتور محمد على الصلابي – حفظه الله – مع اختصار يسير
([1]) انظر: المسند (5/299)، السيرة النبوية لابن هشام (3/101).
([2]) انظر: زاد المعاد (3/218). (3) الآطام: الحصون.
([4]) ظمء حمار: أي مقدار ما بين شربتي حمار. (5) أي نموت اليوم أو غدًا.
([6]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/98).
([7]) انظر: زاد المعاد (3/218). (7) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص117.
([9]) انظر: البخاري، الجهاد، رقم 2808. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/100، 101).
([11]) انظر: المغازي للواقدي، (1/263), والسيرة لابن هشام (3/99).
([12]) انظر: تجريد أسماء الصحابة (2/70)، الإصابة (3/393).
([13]) انظر: الروض الأنف للسهيلي (4/408، 409).
([14]) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/306).
([15]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/99)، غزوة أحد دراسة دعوية، ص113.
([16]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/388).
([17]) انظر: البداية والنهاية (4/35).
([18]) الشعراء: ذباب له لدغ.
([19]) تدأدأ: تقلب عن فرسه فجعل يتدحرج.
([20]) سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
([21]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/93، 94).
([22]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/169).
([23]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/94).
([24]) اعل هبل: ظهر دينك.
([25]) البخاري، المغازي، رقم 4043، السيرة النبوية الصحيحة (2/392).
([26]، 4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/392).
([28]) انظر: زاد المعاد (3/202، 203). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/109).
([30]) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4079.
([31]) سنن النسائي السيوطي وحاشية السندي، كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد (4/79) رقم 2006.
([32]) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي.
([33]) انظر: مختصر سيرة الرسول، لمحمد عبد الوهاب، ص331.
([34]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/106).
([35]) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص104.
([36]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/107).
([37]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/210).
([38]) انظر: مجمع الزوائد (6/121، 122) وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
([39]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/394).
([40]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فيض الله، ص132، 133.
([41]) انظر: البداية والنهاية (4/41).
([42]) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص95، 96.
([43]) الروحاء: تبعد عن المدينة 73 كيلومترًا في طريق مكة.
([44]) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/121) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز.
([45]،4 ) انظر: البداية والنهاية (4/50).
([47]) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص144 نقلا عن الطبقات الكبرى لابن سعد (2/43).
([48]) انظر: زاد المعاد (3/245).
([50]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص142.
([51]) عارضيك: هما جانبا الوجه، لسان العرب (2/742).
([52]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/116).
([53]) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المرء (7/134) رقم 6133.
([54]) انظر: البداية والنهاية (4/53)
([55]) المحرر الوجيز لابن عطية (3/411).
([56]) مرويات غزوة أحد للباكري، ص367، 369.
([57]) انظر: في ظلال القرآن (1/519).
([58]) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص51. (3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/49)
([60]) مسلم، كتاب الجهاد، باب غزو النساء، رقم 1779.
([61]) تزفر: تحمل القرب مملوءة بالماء.
([62]) البخاري، كتاب المغازي رقم 4071.
([63]) تنقزان: أي تحملان وتقفزان بها وثبا.
([64]) البخاري، كتاب الجهاد واليسر، باب غزو النساء رقم 2880.
([65]) انظر: المغازي للواقدي (1/249).
([66]) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء، رقم 1810.
([67]) البخاري فتح الباري لابن حجر (6/92) عند حديث رقم 2880.
([68]) البخاري، كتاب الجهاد والسير رقم 2882، 2883.
([69]) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4075.
([70]) أخو أم عمارة: انظر الذهبي سير أعلام النبلاء (2/278).
([71]) المغازي للواقدي (1/269، 270).
([72]) انظر: مرويات غزوة أحد، ص254.
([73]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/391).
([74]) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص171: 173.
([75]) استرجعت، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
([76]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/108).
([77]) انظر: البداية والنهاية (4/47), غزوة أحد دراسة دعوية، ص236.
([78]) انظر: الإصابة (8/88) رقم 11060.
([79]) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص109.
([80]) انظر: البداية والنهاية (4/48).
([81]) أشوت: صارت صغيرة خفيفة.
([82]) انظر: مغازي الواقدي (1/315، 316).
([83]) في ظلال القرآن (1/532).
([84]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/190).
([85]) انظر: تفسير القرطبي (4/216).
([86]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/191).
([87]) انظر: تفسير الرازي (9/14). (4) انظر: تفسير الكشاف (1/465).
([89]) انظر: تفسير الرازي (4/105).
([90]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/199).
([91]) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص137.
([92]) انظر: تفسير ابن كثير (1/410).
([93]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/204).
([94]) انظر: غزوة أحد دارسة دعوية، ص207- 209.
([95]) انظر: الطاعة والمعصية وأثرهما في المجتمع، محمد بن العثيمين نقلا عن غزوة أحد، ص211.
([96]) مسلم، رقم 2742. (3) لا نريم: لا نبرح المكان.
([98]) انظر: تفسير الطبري (3/474). (5) المصدر نفسه (3/474).
([100]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/197). (2) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/441).
([102]) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/200).
([103]) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/616).
([104]) انظر: زاد المعاد (3/224). (3) انظر: تفسير القرطبي (4/222).
([106]) انظر: مرض النبي ووفاته وأثر ذلك على الأمة، خالد أبو صالح، ص20 نقلا عن غزوة أحد دراسة دعوية، ص191.
([107]) فتيمم: قصد. (2) الحبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن.
([109]) البخاري، كتاب المغازي، باب مرض رسول الله ووفاته، رقم4454.
([110]) عقرت: دهشت وتحيرت، وسقطت. (5) انظر: البخاري، كتاب المغازي، رقم 4454.
([112]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص218. (2) المصدر نفسه، ص219.
([114]) نفس المصدر، ص220. (4) بجرًا: شرًا.
(1) انظر: البداية والنهاية (4/53). (2) انظر: صحيح البخاري، المغازي، رقم 4084.
([118]) انظر: التاريخ الإسلامي (5/198). (4) انظر: معين السيرة النبوية، ص427.
([120]) مسلم، كتاب الفضائل، باب في قتال جبريل وميكائيل (4/1802).
([121]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/391).
([122]) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص461، 462.
([123]) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص463.
([124]) انظر: تفسير الطبري (4/170).
([125]) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص125، تفسير الطبري (4/269).
([126]) مسلم، كتاب الإمارة، باب أرواح الشهداء في الجنة (3/1887).
([127]) انظر: معين السيرة، ص252، 253.
([128]) انظر: التاريخ الإسلامي (5/21).
([129]) عضل: اسم قبيلة ابن خزيمة، الجداية: الصغير من أولاد الظباء.
([130]) مبيرًا: مهلكًا، ومنكلاً: قامعًا لهم ولغيرهم.
([131]) الجلائب: ما يجلب إلى الأسواق ليباع فيها.
([1]) لا يهيج الرسل: أي لا ينالهم منه مكروه. (6) أورق: لونه كالرماد.
([3]) البخاري، المغازي رقم 4072. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص283.
([5]) المصدر نفسه، ص284. (4) المصدر السابق، ص283.
([7]) الفل: الثلم في السيف. (6) انظر: المسند (1/271) برقم 2445.
([9]) لدمت: ضربت ودفعت.
([10]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص285. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/185).
([12])رواه الحاكم (3/196) سنده حسن. (8) مسلم، كتاب الأدب رقم 2132.
([14]) البخاري، المغازي رقم 4072.
([15]) انظر: محمد رسول الله, عرجون (3/603). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/141)
([17]) رواه الطبراني في الكبير، إسناده حسن (22/139) رقم 370 نقلا عن صحيح السيرة النبوية، ص286.
([18]) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/602). (5) الإذخر: نوع من العشب.
([20]) البخاري في الجنائز، رقم 1286. (7) البخاري في الجنائز رقم 1274، 1275.
([22]) انظر: المستدرك (3/200) صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
([23]) انظر: السيرة الحلبية (2/532). (3) شفر: العين.
([25]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص294. (5) المصدر السابق, 293.
([27]) انظر: زاد المعاد (3/212).
([28]) أي: سمع منادي رسول الله يدعو للخروج لملاقاة العدو.
([29]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص289.
([30]) انظر: المغازي للواقدي (1/273).
([31]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/129،130).
([32]) انظر: زاد المعاد (3/214). (3) البخاري رقم 4097.
([34]) البخاري رقم 1351. (5) البخاري، رقم 1244.
([36]) صحيح ابن ماجة للألباني، رقم 190 (2800). (7) انظر: زاد المعاد (3/208).
([38]) انظر: زاد المعاد (3/208). (2) انظر: المغازي للواقدي (1/275).
([40]) المصدر نفسه (1/277). (4) انظر: المغازي للواقدي (1/277).
([42]) المصدر نفسه (1/277).
([1]) بنو الأشهل: حي من الأنصار. (35) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/73).
([3]) انظر: غزوة أحد، دراسة دعوية، ص168.
([4]) انظر: ضوابط المصلحة، محمد رمضان البوطي، ص23.
([5]) انظر: المقاصد العامة للشريعة، يوسف حامد العالم، ص166.
([6]) الشواط: اسم حائط، أي بستان، بين المدينة وأحد.
([7]) انظر: البداية والنهاية (4/14). (2) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص84.
([9]) انظر: مرويات غزوة أحد، حسين أحمد، ص71. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص277.
([11]) البخاري في المغازي، باب إذ همت طائفتان رقم4051.
([12]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (3/382).
(46) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص278. (2) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/561).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/383). (4) انظر: محمد رسول الله (3/571).
(5) المصدر نفسه (3/572).
([18]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص89.
([19]) انظر: الإصابة (2/278)
([20]) انظر: البخاري في المغازي، باب غزوة أحد، رقم 4043.
([21]) انظر: السيرة الحلبية (2/496).
([22]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص90.
([23]) انظر: الواقدي المغازي، (1/219).
([24]) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، محمد فرج، ص355، 356.
([25]) انظر: تاريخ الطبري، (2/507).
([26]) انظر: إمتاع الأسماع للمقريزي (1/120).
([27]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/192).
([28]) انظر: السيرة الحلبية (2/497، 498)، تفسير الطبري (7/218).
([29]) مسلم، كتاب فضائل الصحابة رقم 2470.
(2) الكيول: مؤخرة الصفوف. (3) انظر: البداية والنهاية (4/17).
([32]) ذفف: أجهز عليه. (5) انظر: البداية والنهاية (4/18)
([34]) نفس المصدر (4/18).
([35]) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/303).
([36]، 9) نفس المصدر (1/303).
([38]) البخاري، كتاب الجهاد، رقم 3039. (2) مسند أحمد (1/287) رقم 2608.
([40]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص98.
([41]) الرباعية: إحدى الأسنان الأربعة التي تكون بين الثنية والناب.
([42]) الشج: كسر في الرأس.
([43]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص294. (7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/81).
([45]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص100. (2) المصدر نفسه، ص101.
([47]) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/112). (4) انظر: نضرة النعيم (1/304).
([49]) البخاري، رقم 3724. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296.
([51]) المصدر نفسه، ص295.
([52]) المسند والفتح الرباني (22/589) بإسناده رجاله ثقات.
([53]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296. (6) الجعبة: الكنانة التي تجعل فيها السهام.
([55]) لا تشرف: لا تتطلع.
([56]) نحري دون نحرك: جعل الله نحري أقرب إلى السهام من نحرك لأصاب بها دونك.
([57]) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296. (10) انظر: البداية والنهاية (4/35، 36).
([59]) انظر: السيرة النبوية لمنير الغضبان، ص468، 470.
([60]) انظر: نضرة النعيم (1/305).
([61]) انظر: نضرة النعيم (1/305). (2) المصدر نفسه (1/306).
([63]) فأضعها في ثنته: أي في عاتقه. (4) ذلك العهد به: كناية عن موته.
([1]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، محمد بامدحج، ص71.
([2]) انظر: تفسير ابن كثير (2/341) طبعة دار السلام.
([3]) انظر: فتح القدير (309). (4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص71.
([5]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/68). (2) المصدر نفسه (3/79).
([7]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص74.
([8]) وادعهم: أي صالحهم وسالمهم. (5) انظر: المغازي للواقدي (1/195، 196).
([10]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص75.
([11]) البداية والنهاية (4/11) المغازي للواقدي، (1/199).
([12]) الأحابيش: من اجتمع إلى العرب وانضم إليهم.
([13]) الظعن: النساء، واحدتها ظعينة، والظعينة المرأة في الهودج.
([14]) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص78.
([15]) المصدر نفسه، ص16.
([16]) انظر: الرحيق المختوم للمباركفوري، ص250.
([17]) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/812).
([18]) أوعبوا: خرجوا بجميع ما عندهم من السلاح. (2) انظر: مغازي الواقدي (1/204).
([20]) الأكبار: جمع كبر: والكبر هو: الطبل الذي له وجه واحد وهو فارسى معرب.
([21]) انظر: مغازي الواقدي (1/207، 208). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/187).
([23]) انظر: السيرة الحلبية (2/489). (2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص22.
([24]) انظر: تاريخ الطبري، (2/60). (4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص82.
([26]) انظر: البداية والنهاية (4/14). (6) لأمة الحرب: عدتها.
([28]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/71).
([29]) انظر: غزوة أحد، أحمد عز الدين، ص51، 52.
([30]) انظر: القيادة العسكرية للرشيد، ص374.
(31) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/380).
([32]) انظر: غزوة أحد ، لأبي فارس ص34، 35.
([33]) انظر: المغازي للواقدي (1/217).
غزوة أُحُد هي معركة وقعت بين المسلمين وقبيلة قريش في يوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة.[1] وكان جيش المسلمين بقيادة رسول الإسلام محمد، أما قبيلة قريش فكانت بقيادة أبي سفيان بن حرب.[2][3] وغزوة أحد هي ثاني غزوة كبيرة يخوضها المسلمون، حيث حصلت بعد عام واحد من غزوة بدر.[3] وسميت الغزوة بهذا الاسم نسبة إلى جبل أحد بالقرب من المدينة المنورة، الذي وقعت الغزوة في أحد السفوح الجنوبية له.[4]
وكان السبب الرئيسي للغزوة هو رغبة قريش في الانتقام من المسلمين بعد أن ألحقوا بها الهزيمة في غزوة بدر،[2][3] ومن أجل استعادة مكانتها بين القبائل العربية التي تضررت بعد غزوة بدر،[2] فقامت بجمع حلفائها لمهاجمة المسلمين في المدينة المنورة.[3] وكان عدد المقاتلين من قريش وحلفائها حوالي ثلاثة آلاف، في حين كان عدد المقاتلين المسلمين حوالي ألف، وانسحب منهم حوالي ثلاثمئة، ليصبح عددهم سبعمئة مقاتل.[1][2][3] وقُتل سبعون من المسلمين في الغزوة، في حين قُتل اثنان وعشرون من قريش وحلفائها.[2] ويعتقد المسلمون أن نتيجة غزوة أحد هي تعلم وجوب طاعة النبي محمد، واليقظة والاستعداد، وأن الله أراد أن يمتحن قلوب المؤمنين ويكشف المنافقين كي يحذر الرسول محمد منهم.[5]
محتويات
1 أسباب المعركة والتحضير لها
1.1 الأسباب
1.2 استعداد قريش وحلفائها
1.3 استعداد المسلمين
2 أحداث المعركة
2.1 وصول قريش وحلفائها إلى أسوار المدينة المنورة
3 إشاعة مقتل النبي محمد
4 بعد المعركة
5 دعاء النبي محمد
6 مواقف في جيش المسلمين
6.1 بعض صور تضحيات الصحابة يوم أحد
6.1.1 تضحية أنس بن النضر
6.1.2 تضحية سعد بن الربيع
6.1.3 تضحية عمرو بن الجموح
6.1.4 تضحية أم عمارة
6.1.5 تضحيات شباب الأنصار
6.1.6 مقتل مخيريق
7 قائمة شهداء أحد
8 الآيات القرآنية
9 معالم ذات صلة بغزوة أحد
10 المراجع
11 المصادر
أسباب المعركة والتحضير لها
الأسباب
كان من نتائج غزوة بدر ازدياد قوة المسلمين،[6] وتهديدهم لطريق قريش التجاري إلى بلاد الشام، بل وشكلوا تهديدًا لنفوذها في منطقة الحجاز بأسرها؛[7] لأن اقتصاد قريش قائم على رحلتي الشتاء والصيف، وإن تم قطع أحد الطرق فذلك يلحق ضررًا بالآخر؛ لأن تجارتهم في بلاد الشام قائمة على سلع اليمن، وتجارتهم في اليمن قائمة كذلك على سلع بلاد الشام.[8] فأرادت قريش أن تهاجم المسلمين لتقضي عليهم قبل أن يصبحوا قوة تهدد كيانهم.[2]
استعداد قريش وحلفائها
ذهب كل من صفوان بن أمية، وعبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل إلى أبي سفيان ليطلبوا منه مال قافلته كي يستطيعوا تجهيز الجيش لمهاجمة المسلمين، حيث كان مقدار ربح القافلة حوالي خمسين ألف دينار، فوافق أبو سفيان، وبعثت قريش مندوبين إلى القبائل لتحريضهم على القتال، وفتحت باب التطوع للرجال من قبائل الأحباش وكنانة وأهل تهامة. فجمعت قريش ثلاثة آلاف مقاتل مع أسلحة و700 درع، وكان معهم أيضًا 3 آلاف من البعير و200 فَرسًا و15 ناقة ركبت عليهن 15 امرأة لتشجيع المقاتلين، وتذكيرهم بما حدث في غزوة بدر، ودعمهم في حال الحاجة.[3][9][10] وكانت القيادة العامة للجيش بيد أبي سفيان، في حين كان خالد بن الوليد قائد الفرسان بمعاونة عكرمة بن أبي جهل، أما قيادة اللواء فكانت لبني عبد الدار.[10]
استعداد المسلمين
في أثناء استعداد قريش وحلفائها للقتال، طلب أبو سفيان من العباس بن عبد المطلب أن يشارك في قتال المسلمين، لكنه رفض وأخبر الرسول محمد سرًا بالخطر الذي يتهدد المسلمين، فقال الرسول محمد: «قد رأيت والله خيرًا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة» والمقصود بالبقر التي تذبح هو عدد من الصحابة يقتلون، أما المقصود بالكسر “الثلم” الذي يحصل للسيف فهو إصابة أحد أهل بيت النبي محمد.[9][11][12] وقامت فرقة من الصحابة من الأنصار بحراسة الرسول محمد، على رأسهم: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وقامت مجموعات من الصحابة بحراسة مداخل المدينة المنورة وأسوارها.[10][12] وكانت خطة المسلمين في المعركة هي أن يجعل الرسول محمد المدينة أمامه، وجبل أحد خلفه، ووضع خمسين من الرماة على قمة هضبة عالية مشْرفة على ميدان المعركة، وكان قائدهم هو عبد الله بن جبير. وأمرَهم الرسول بالبقاء في أماكنهم وعدم مغادرتها إلا بإذن منه، حيث قال لهم: “ادفعوا الخيل عنا بالنبال”، وقام بتقسيم الجيش إلى عدة أقسام واستلم قيادة المقدمة.[9]
أحداث المعركة
تفاصيل معركة أحد
وصول قريش وحلفائها إلى أسوار المدينة المنورة
سلكت قريش مع حلفائها الطريق الغربية الرئيسية، وعند وصولهم إلى الأبواء اقترحت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان على الجيش أن يقوم بنبش قبر أم الرسول محمد، لكنه رفض الطلب لما قد يكون له من عواقب وخيمة. وتابع الجيش مسيره حتى اقترب من المدينة المنورة، فعبر من وادي العقيق الذي يقع شمال المدينة المنورة بجانب أحد، ثم انحرف إلى جهة اليمين حتى وصل مكانًا يدعى عينين في منطقة بطن السبخة عند قناة على شفير الوادي، وعسكر هناك. وعندما علم المسلمون بتقدم قريش وحلفائها، أمر الرسول محمد السكان بالبقاء في المدينة، بحيث إذا أقامت قريش في معسكرها كانت إقامتهم بلا فائدة، وإذا قرروا دخول المدينة يدافع عنها الرجال في مداخل الأزقة، والنساء على سطوح البيوت، ووافقه على هذا الرأي “زعيم المنافقين” عبد الله بن أبي سلول كي يستطيع الانسحاب من المعركة دون أن يعلم أحد بذلك.[10]
عندما تقارب الجمعان وقف أبو سفيان ينادي أهل يثرب بعدم رغبة مكة في قتال يثرب واستناداً إلى سيرة الحلبي فإن عرض أبو سفيان قوبل بالاستنكار والشتائم وهنا قامت زوجته هند بنت عتبة مع نساء مكة يضربن الدفوف ويغنين:
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق وإن تدبروا نفارق
فراقاً غير وامق
وجعلت هند تقول :
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأديار
ضربا بكل بتار
فتقدم رجال من بني عبد الدار من قريش، وكانت فيهم سدانة الكعبة ولواء قريش، وعقد جيش مكة ثلاثة ألوية لواء مع طلحة بن أبي طلحة العبدري القرشي ولواء مع سفيان بن عويف الحارثي الكناني ولواء مع رجل من الأحابيش من كنانة.[13]
وأعطى الرسول راية جيشه لمصعب بن عمير وهو أيضا من بني عبد الدار من قريش وجعل الزبير بن العوام قائدا لأحد الأجنحة والمنذر بن عمرو قائدا للجناح الآخر ورفض الرسول مشاركة أسامة بن زيد وزيد بن ثابت في المعركة لصغر سنهما [14] ودفع الرسول سيفه إلى أبي دجانة الأنصاري وكان مشهورا بوضع عصابة حمراء أثناء القتال وكان مشهورا أيضا بالشجاعة والتبختر بين الصفوف قبل بدء المعركة وقال فيه الرسول واستنادا إلى السهيلي في كتابه “الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية” “إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن”.
بدأت المعركة عندما هتف الرسول برجاله “أمت، أمت” واستطاع المسلمون قتل أصحاب اللواء من بني عبد الدار من قريش فاستطاع علي بن أبي طالب قتل طلحة الذي كان حامل لواء قريش فأخذ اللواء بعده شخص يسمى أبو سعد ولكن سعد بن أبي وقاص تمكن من قتله وآخر من حمل اللواء صوأب وهو عبد حبشي لبني عبد الدار فلما قتل رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية الكنانية زوجة غراب بن سفيان بن عويف الكناني فلاثوا به وبقي اللواء مرفوعا وفي هذا يقول حسان بن ثابت:
فخرتم باللواء وشر فخر لواء حين رد إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه بعبد وألأم من يطا عفر التراب
ظننتم ، والسفيه له ظنون وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنا يوم التقينا بمكة بيعكم حمر العياب
وقال أيضا:
إذا عضلٌ سيقت إلينا كأنها جدايةُ شركٍ مُعْلَمات الحواجب
أقمنا لهم طعنا مبيرا منكِّلا وحزْناهُم الضرب من كل جانب
فلولا لواءُ الحارثيةِ أصبحوا يُباعونَ في الأسواق بَيْعَ الجلائب
وفي هذه الأثناء انتشر المسلمون على شكل كتائب متفرقة واستطاعت نبال المسلمين من إصابة الكثير من خيل أهل مكة وتدريجيا بدأ جيش مكة بإلقاء دروعهم وتروسهم تخففا للهرب وآخر وفي هذه الأثناء صاح الرماة الذين تم وضعهم على الجبل “الغنيمة، الغنيمة” ونزل 40 منهم إلى الغنيمة بينما بقيت ميمنة خالد بن الوليد وميسرة عكرمة بن أبي جهل ثابتة دون حراك وفي هجمة مرتدة سريعة أطبقت الأجنحة على وسط المسلمين وتمكنت مجموعة من جيش مكة من الوصول إلى موقع الرسول Mohamed peace be upon him.svg.
إشاعة مقتل النبي محمد
استنادا إلى الطبري فإنه عند الهجوم على الرسول تفرق عنه أصحابه وأصبح وحده ينادي “إليّ يا فلان، إليّ يا فلان، أنا رسول الله” واستطاع عتبة بن أبي وقاص الزهري القرشي أن يصل إلى الرسول ويكسر خوذة الرسول فوق رأسه الشريف وتمكن عبد الله بن شهاب الزهري القرشي من أن يحدث قطعا في جبهة الرسول وتمكن عبد الله بن قمئة الليثي الكناني من كسر أنفه وفي هذه الأثناء لاحظ أبو دجانة حال الرسول فانطلق إليه وارتمى فوقه ليحميه فكانت النبل تقع في ظهره وبدأ مقاتلون آخرون يهبون لنجدة الرسول منهم مصعب بن عمير وزياد بن السكن وخمسة من الأنصار فدافعوا عن الرسول ولكنهم قتلوا جميعا وعندما قتل عبد الله بن قميئة الليثي الكناني الصحابي مصعب بن عمير ظن أنه قتل الرسول فصاح مهللا “قتلت محمدا” ولكن الرسول في هذه الأثناء كان يتابع صعوده في شعب الجبل متحاملا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام واستنادا إلى رواية عن الزبير بن العوام فإن تلك الصرخة كانت عاملا مهما في هزيمة المسلمين حيث قال ابن العوام “وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا” [15]
هناك آراء متضاربة عن الشخص الذي أطلق تلك الصيحة التي اشتهرت عند المسلمين باسم صرخة الشيطان فيقول البيهقي “وصاح الشيطان: قتل محمد” بينما يقول ابن هشام “الصارخ إزب العقبة، يعني الشيطان” وهناك في سيرة الحلبي الصفحة 503 المجلد الثاني، رواية عن عبد الله بن الزبير أنه رأى رجلا طوله شبران فقال من أنت ؟ فقال إزب فقال بن الزبير ما إزب ؟ فقال رجل من الجن [16]
وقد أقبل أبي بن خلف الجمحي القرشي على النبي عليه الصلاة والسلام -وكان قد حلف أن يقتله- وأيقن أن الفرصة سانحة، فجاء يقول: “يا كذّاب أين تفر!” وحمل على الرسول بسيفه، فقال النبي : بل أنا قاتله إن شاء الله، وطعنه في جيب درعه طعنة وقع منها يخور خوار الثور، فلم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم حتى مات. ومضى النبي يدعو المسلمين إليه، واستطاع -بالرجال القلائل الذين معه- أن يصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار. ووجد النبي بقية من رجاله يمتنع بهم، وعاد لهؤلاء صوابهم إذ وجدوا الرسول حياً وهم يحسبونه مات.
ويبدو أن إشاعة قتل النبي سرت على أفواه كثيرة، فقد مر أنس بن النضر بقوم من المسلمين ألقوا أيديهم وانكسرت نفوسهم فقال: ما تنتظرون: قالوا: “قتل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم” فقال: “وما تصنعون بالحياة بعده؟. قوموا فموتوا على ما مات عليه”.. ثم استقبل المشركين فما زال يقاتلهم حتى قتل.
روى مسلم: “أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما أرهقه المشركون قال: من يردهم عني وله الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه، فقال من يردهم عني وله الجنة، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله: ما أنصفنا أصحابنا -يعني من فَرُّوا وتركوه”. وقتل من جيش أهل مكة أولاد سفيان بن عويف الكناني الأربعة: أبو الحمراء وأبو الشعثاء وخالد وغراب.[17] فتركت هذه الاستماتة أثرها، ففترت حدَّة قريش في محاولة قتل الرسول، وثاب إليه أصحابه من كل ناحية وأخذوا يلمون شملهم ويزيلون شعثهم. وأمر النبي صحبه أن ينزلوا قريشاً من القمة التي احتلوها في الجبل قائلاً: ليس لهم أن يعلونا، فحصبوهم بالحجارة حتى أجلوهم عنها.
وقد نجح الرماة حول الرسول كسعد بن أبي وقاص وأبو طلحة الأنصاري في رد المشركين الذين حاولوا صعود الجبل، وبذلك أمكن المسلمين الشاردين أن يلحقوا بالنبي ومن معه.
وقد أصاب الصحابة التعب والنعاس فقد داعب الكرى أجفان البعض من طول التعب والسهر، فإذا أغفى وسقط من يده السيف عاودته اليقظة فتأهب للعراك من جديد ويقول المسلمون ان “هذا من نعمة الله على القوم فقد جاء في القرآن Ra bracket.png ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ Aya-154.png La bracket.png.
وظن المسلمون -لأول وهلة- أن قريشاً تنسحب لتهاجم المدينة نفسها، فقال النبي لعلي بن أبي طالب: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة؛ فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم ثم لأناجزنهم فيها. قال علي: فخرجت في آثارهم فرأيتهم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة.
هناك رواية أن هند بنت عتبة بقرت عن كبد حمزة بن عبد المطلب فلاكته فلم تستطعه فلفظته [15] وبعد أن احتمى المسلمون بصخرة في جبل أحد تقدم أبو سفيان من سفح الصخرة ونادى “أفي القوم محمد” ؟ ثلاث مرات لم يجبه أحد ولكن أبا سفيان استمر ينادي “أفي القوم ابن أبي قحافة” ؟ “أفي القوم ابن الخطاب” ؟ ثم قال لأصحابه “أما هؤلاء فقد قتلوا” ولكن عمر بن الخطاب لم يتمالك نفسه وقال “كذبت والله إن الذين عددتهم لأحياء كلهم” ثم صاح أبو سفيان “الحرب سجال أعلى هبل، يوم بيوم ببدر” فقال الرسول محمد “الله أعلى وأجل لا سواء ! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار” [3] [15]
ومن المواقف الشهيرة في هذه المعركة موقف أبو دجانة فقد روى ثابت “عن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال أنه أمسك يوم “أحد” بسيف ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين”. قال ابن إسحاق “كان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها عُلِم أنه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم تعصَّب وخرج يقول:
أنا الذي عاهدني خليلـي ونحن بالسفح لدى النخيـل
ألاَّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسـول
وموقف حنظلة بن أبي عامر خرج حنظلة بن أبي عامر من بيته حين سمع هواتف الحرب، وكان حديث عهد بعرس، فانخلع من أحضان زوجته، وهرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد وهو جنب فاستشهد وسمي بغسيل الملائكة.
ومنها مافعله سعد بن الربيع فقد روى ابن إسحاق: «”قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم : من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سلامي! وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف”».
قال ابن أبي الحديد: «”وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدّثين، وهو من الأخبار المشهورة، ووقفتُ عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق، ورأيت بعضها خالياً عنه، وسألت شيخي عبد الوهّاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال خبر صحيح، فقلت: فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال: أو كلّما صحيحاً تشتمل عليه كتبُ الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة”».
بعد المعركة
انتهت المعركة بأخذ قريش ثأرها فقد قتلوا 70 مسلما بسبعين مقاتلا من مكة يوم معركة بدر وفي سورة آل عمران إشارة إلى هذا حيث ينص الآية 165 : Ra bracket.png أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ Aya-165.png La bracket.png.[18] وكان من القتلى 4 من المهاجرين ومسلم قتل عن طريق الخطأ على يد مسلمين آخرين وكان اسمه اليمان أبا حذيفة فأمرهم الرسول أن يخرجوا ديته وكانت خسائر أهل مكة حوالي 23 مقاتلا [19]. وأمر الرسول أن يدفن قتلى المسلمين حيث أستشهدوا بدمائهم وألا يغسلوا ولا يصلى عليهم وكان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد .
وقد حزن الرسول على مقتل عمه حمزة، قال ابن مسعود : «”ما رأينا رسول الله Mohamed peace be upon him.svg باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء” [20] وروي أنه “كان رسول الله Mohamed peace be upon him.svg يعز حمزة، ويحبه أشد الحب، فلما رأى شناعة المثلة في جسمه تألم أشد الألم، وقال: لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت قط موقفاً أغيظ إليَّ من هذا”» .
دعاء النبي محمد
روى الإمام أحمد: “لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): استووا حتى أثني على ربي عز وجل!. فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت؛ ولا مقرِّب لما باعدت، ولا مبعِّد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العَيْلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق”.
مواقف في جيش المسلمين
بعض صور تضحيات الصحابة يوم أحد
تضحية أنس بن النضر
أنس بن النضر سمع في غزوة أحد أن الرسول قد مات، وأنه قتل، فمر على قوم من المسلمين قد ألقوا السلاح من أيديهم، فقال لهم: “ما بالكم قد ألقيتم السلاح؟” فقالوا: “قتل رسول الله “، فقال أنس : “فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله “.
واندفع أنس بن النضر في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس : «”يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد”» ، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. وقد كان أنس لم يشارك غزوة بدر فعزم النية لله على أنه في الغزوة القادمة سوف يفعل ما لا يفعله أحد وصدقت نيته إذا كانت غزوة أحد بعد بدر بسنة واحدة.
تضحية سعد بن الربيع
سعد بن الربيع الأنصاري سأل عنه النبي زيداً بن ثابت قائلاً : «”يا زيد ! ابحث عن سعد بن الربيع بين القتلى في أحد فإن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله : كيف تجدك؟”» أي: كيف حالك؟. وانطلق زيد بن ثابت ليبحث عن سعد بن الربيع الأنصاري فوجده في آخر رمق من الحياة، فقال له: «”يا سعد ! رسول الله يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟”» فقال سعد بن الربيع لـزيد بن ثابت : «”وعلى رسول الله وعليك السلام، وقل له: إني والله لأجد ريح الجنة”» ، ثم التفت سعد وهو يحتضر إلى زيد بن ثابت، وقال: «”يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف”».
تضحية عمرو بن الجموح
ذُكر ان عمرو بن الجموح رجل أعرج لا جهاد عليه، فقد أسقط الله عنه الجهاد، لكنه سمع نداء : يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، واراد أن ينطلق للجهاد في المعركة فقال أبناؤه الأربعة : «”يا أبانا لقد أسقط الله عنك الجهاد، ونحن نكفيك”» . فبكي عمرو بن الجموح وانطلق إلى النبي ليشتكي قائلاً: «”يا رسول الله! إن أبنائي يمنعوني من الخروج للجهاد في سبيل الله، ووالله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة”» ، فقال النبي: «”يا عمرو فقد أسقط الله عنك الجهاد، فقد عذرك الله جل وعلا”» . ومع ذلك رأى النبي رغبة عارمة في قلب عمرو بن الجموح لخوض المعركة، فالتفت النبي إلى أبنائه الأربعة قائلاً لهم: «”لا تمنعوه! لعل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله”» . وانطلق عمرو بن الجموح يبحث عن الشهادة في سبيل الله، وقتل في المعركة. ومر عليه النبي بعدما قتل فقال: «”والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة”».
تضحية أم عمارة
لم يشترك من نساء المسلمين في تلك المعركة إلا امرأة واحدة هي أم عمارة نسيبة بنت كعب النجارية الخزرجية فلما رأت النبي في أرض المعركة قد تكالب عليه أعداؤه من يمنة ويسرة رمت القراب التي كانت تسقي بها جرحى المسلمين، وأخذت تدافع عنه. فقال الرسول عنها: «”ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة في ذلك اليوم، ألتفتُ يمنة وأم عمارة تذود عني، والتفت يسرة وأم عمارة تذود عني”» ، وقال لها النبي في أرض المعركة: «”من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟! سليني يا أم عمارة”» قالت: «”أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله”» قال: «”أنتم رفقائي في الجنة”».
تضحيات شباب الأنصار
لما رأى النبي هجوم الكفار قال لنفر ممن حوله من شباب الأنصار: «”من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة”»، فتسابقوا حتى قتلوا جميعاً واحداً تلو الآخر وهم ستة من الرجال.
مقتل مخيريق
قال ابن إسحاق : «”وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفطيون من اليهود، قال : لما كان يوم أحد، قال :يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق ، قالوا : إن اليوم يوم السبت ، قال : لا سبت لكم . فأخذ سيفه وعدته، وقال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء ، ثم غدا إلى الرسول، فقاتل معه حتى قتل ؛ فقال رسول الله – فيما بلغنا – مخيريق خير يهود”».